العناق المصيري بين فضاءات النخيل و مدارات البرتقال
قراءة انطباعية في نص مراسم الزفاف للقاص خليل النابلسي
بقلم الدراسان : حسين الهنداوي – حاتم قاسم

القصة : مراسم الزفاف
==============
قد يضيق الأفق الرحب بصغار النمل ، لكنه جعل من زنزانته مجـــرة تحــــوي آلاف الكواكب 0 تعلّم كيف يطعم الجرح جرحاً ، و كيف ينثر الملح على جراحه كي تتأجج نارا 0 آلاف الخواطر تتجاذبه و تعصف به ، اكتشف أن المشاعر لها أقدام تتســـلّق الهضاب و الجبال ، و أن الوطن زنبقة تنمو و تكبر كلما التصــق بتراب الزيتـــــون و البرتقال 0
- ها أنت يا ولدي أدميت جسدك و أرهقت روحك !!
- لا يا أبتي : فالخنادق الحمراء تجتاحها زوارق الفولاذ ، و الأمـــــواج العاتيــة تتحطّم و تتلاشى على صخور الشاطئ 0
- علام عزمت إذاً يا كاظم ؟
- على دراسة الكيمياء في بغداد 0
- لكن الماء البارد لا يمدّد جناح بعوضة !!
- قد يتسلق المرء شرايينه فيصل إلى قمة ( افرست )
- لكنك تبدو عاري الجسد ، حافي القدمين !!
- الإرادة الثائرة المتمرّدة ككرة إســفنجية كلما ضغـــطت عليها أكثر كلما قفزت و تحرّرت أكثر 0
- ألا ترى أن صاحب الحائط يستمتع بقطف الأعذاق كلما كانت النخلة شــــاهقة سامقة ؟
كانت بغداد آنذاك تستعر بجحيم البرابرة و أتون المغول ، و النخيل العراقـــي محاط بالنار و البارود ، و غراس الذل و الخنوع تدوسها أقدام الثائرين 0
عندما أصبح كاظم و فاطمة عاشقين ، تعانق البرتقال و النخيل ، تعانـــقت السنابل و الأعشاب و الينابيع و الجداول و الأزاهير و الأفلاك 0
- إنها فاطمة الفتاة التي أحببت يا أبتي 0 إنها نخلة عراقية أصــــــلها ثابت في دجلة و الفرات و فرعها و جريدها في سماء القدس و بيسان و الخليل 0 ولدت منذ آلاف السنين في حضن الشمس ، و ترعرعت في سهوب المجد و الكبرياء ، و تأرجحت في حدائق بابل ، و استحمت في بحيرة المتوكل 0 إنها ابنة المرأة الزبطرية التي أنفت الذل و الهوان ، و أطلقت صيحتهــــا التي ما زالت تجلجل في أرجاء الأرض و السماء 0
- عذراً يا أبتي 0 لقد وعدتك ألا أعشق إلا تراب الوطن 0 لكن الحب يحاصرني هنا في ما بين النهرين ، اخترق الجلد و العظم و استقرَّ في شــــغاف القلـــب و خالط وجيبه 0
- لقد أعلنّا خطوبتنا في الذكرى الثانية و الثلاثون لحصـــــــار جنين 0 أما حفل الزفاف فربما يكون قريباً 0
أما أنت يا أماه فإنني استميحك عذراً بقدر الحب الذي يطفح به قلبك 0 كان
بودي ، بل كم كنت أرغب أن تملأ زغاريدك الشوارع و الحقول ، و تلامـــــس
أمواه دجلة و الفرات ن و سعف النخيل و الأزاهير 0
- باركا لنا يا والديّ ، و سيكون يوم الزفاف أجمل و أبهى 0 و في طريقهما إلى الجامعة ، و عندما اقتربا من دورية للغزاة المحتليــن ســـــمعا كلمات عبــرية ترجمها كاظم همساً ، ابتعد ، وقفا تحت نخلة 0
أردفت فاطمة قائلة : أيها القتلة أيها الأوغاد !!!!
ألم يكفهم القتل و التدمير و الإبادة اليومية هناك ، و جاؤوا هنا ليدنسوا أرض الرافدين أيضاً ؟
لم يكونا جذابين مثل تلك الليلة 0 تعانقا طويلاً ، أحلامهــما رماح تخــترق الزمان و المكان 0 وما أجمل أن ينــــام المرء يقطف نجمـــاً و يزرع زيتوناً
و نخلاً !!
نضج الزيتون و البرتقال و النخـــيل الممتد من بغــــداد إلى الــقدس و تألقــت الأرض بأكوام النجوم ، نظما قلادتيــــــن منها ، و طفقا يخصفــــان من ورق البرتقال و جريد النخل طريقاً أخضر يتلألأ بالنجوم ، و ما زالا ينتظران اللون الأجمل و موعد الزفاف 0
تحسّسا الحزامين الناسفين اللذين يلتصقان بجسديهما كما يلتصق الوشم جبين الفلاح ، أو كما تلتصق ذرات الغبار على سواعده السمراء 0
سارا جذلين كعروسين ينتظران اللقاء الخالــد ، و يرددان أنشـــــودة الحــــياة و المجد ، الأعشاب تتهامس ، و ســعف النخيل يتراقص ، و الطبيــعة جذلى مفعمة بالفرح الأخضر 0
و بعد الانفجار تدفّق الأحمر القاني فارتوى النخيل و البرتقــــال ، و ازداد المكان ألقاً و بدأت مراسم الزفاف 0

الدراسة النقدية :
=========
حين يضيق الصمت بالمتكلمين و تتعاور الكلمات بحثاً عن نظارات شمسية تبصر من خلالها أفق العودة تنقبض الروح و تتراقص الآف الخواطر بحثاً عن تجاذبية تعصف بالموت المجاني الذي حول فلسطين و العراق إلى حدود مفخخة بالموت 0
الوطن زنبقة و الليمون يكبر و يلتصق بتراب الزيتون و البرتقال و الموت بينهما حنظلي الطعم
النخيل و البرتقال يلتفان جسداً واحداً لينبثق فجر جديد يتسلق به المجاهدون قمة أفرست الجهادية 0
نص يتأرجح كاتبه بين الشاعرية و السردية و تتملكه الحيرة في أن يرسم نصه مشاعر دفاقة أو أن يؤرخ لمضمونه العروبي في قصة تبدو و كأنها عذراء ترهل صمتها طويلاً فمشت خطواتها على جنائز الموت محملة بالدحنون و التراب المخضب0
و أما نص سردي يحمل توقيع مراسم الزفاف ذلك العنوان الذي يعكس على مرآته المحدبة صورة الموت الفلسطيني و العراقي من خلال استخدام رمزية النخيل و البرتقال إنه زفاف من نوع أخر 0000 انفجار 000 تدفق الأحمر القاني 000 صعقة الزواج 000 ارتواء النخيل و البرتقال 00 و ازدياد المكان ألقاً و حسناً 000 إنها صورة الشهادة بأبعادها الحقيقية اللون لون الدم و الريح ريح المسك 000
و إنك و أنت تطالع نص مراسم الزفاف تكتشف الكيمياء العربية التي يمثلها كاظم و فاطمة 000
( لإنها نخلة عربية أصلها ثابت في دجلة و الفرات و فرعها و جريدها في سماء القدس و بيسان ) 0 ينزاح لدى القاص الصوت القصصي باتجاه الشعر حيث يصـــــف لنا حقيقة المضمن العربي الذي يمثله هذا الدم المتدفق شلالاً دفاعاً عن الأرض و الوطن ( عذراً يا أبتي لقد وعـــــدتك ألا أعشق إلا تراب الوطن ) ثنائية من الموت و القتل و الخراب و الدمار يرســـمها القاص بصورة مقالية و كأنه يستصرخ النخوة العربية لتوقف هذا الدمار و ذلك الخراب المكتنز بالموت اليومي و كأننا بالقاص يريد أن يقول إن حدود فلسطين و العراق مسيجة بالموت 0