في فلسطين ، ما هو الأمرُ الغريبْ ؟!
حسين الجزار


إن شيئا ما غريبا ً يجعل مما يحدثُ هذه الأيام في فلسطين أمرا ً عاديا لا يدعو إلى دهشة الشعب الفلسطيني رغم ما عرفَ عن عقله الفلسفي ووعيه النوعي ، وعلى الرغم من المرحلة التي وصل إليها هذا الأمر الغريب من تخدير العقل الفلسطيني ، إلا إن ذلك كله يبقى مدهشا ً . فليس َ من العاديّ أبدا ً أن ينتهي الحالُ بأن تحمل كلمة " شهيد " الوقع ذاته الذي تحمله كلمة " تسوق " على النفس الفلسطينية البسيطة ، كما ليس من العادي أبدا ً ظهور قضية يهودية الدولة الإسرائيلية على السطح مع حزمة من القضايا الشائكة ثم لا نشاهدُ ملصقا ً واحدا ً ينعت الصهيونية بأي شيء من صفاتها في أي من جامعات – قطاع غزة - على سبيل المثال .
فانتقال الصمت من المحيط العربي خارج فلسطين إلى أروقة جامعاتها وأزقة مخيماتها ، في ظل تهويد القدس وخصخصة السجون الإسرائيلية واعتبار الأسرى الفلسطينيين معتقلين جنائيين والمجزرة البشعة التي تعرضت لها غزة والاعتقالات المتواصلة في نابلس والخليل واستمرار المد الاستيطاني بكل عناد وعنجهية ، واستمرار الصمت الفلسطيني بعد إعلان الرئاسة أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود ، لا يمكن أبداً تفسيرهُ على أنه عدوى بمرض الصمت العربي ، ويبقى عالقا ً في غرابته أمام دهشة العقل الفلسطيني السليم .
أليس من الغريبِ أيضا ً أن شريحة واسعة من الفلسطينيين لا يعرفون الشاعر محمود درويش و هو الذي أمضى عمره يكتبُ لفلسطين ، !! وهنا قد يتوقف القارئُ والكاتبُ أيضا ً عن التنفس . وعلى الفورِ فإن سؤالا ً يطرح نفسه أرضا ً على من يقع اللوم هنا ؟! أي كما يقول المواطن ( الحق على مين ) ؟!!
ولقد تعودنا على المشجبِ الواسع دائما ، ودائما كنا نقولُ الاحتلال ، وحقيقة ٌ أن احتلالُ الشعبِ الإسرائيلي لأراضي الشعب الفلسطيني أمرٌ غريبٌ بذاته ، فهو لا يشبه أي احتلال ، كذلك إن أكثر من أربعةِ أجيال متتالية لم تعشْ يوما ً واحدا بلا احتلالْ ، وهو أمرٌ في غاية التعقيد ، جعل الفلسطيني يشعرُ أنه مخلدٌ في الجحيم ، وأن كل ما خارج ِ هذا الجحيم هو الجنة بعينها ، الأمر الذي صرفَ نظرَ عقلِهِ الباطن – على الأقل – عن قضيته الأساسية ، ولكن الاحتلال بكل قوته كعامل مؤثر لا يكفي لهذا النوع من صرف النظر في فلسطين ، فالكثير من أبناء الشعب الفلسطيني من أمثال " غسان كنفاني " و" ناجي العلي " و" جورج حبش "، وأبو عمار " و" أبو جهاد " و " أودوارد سعيد" ، ومحمود درويش " لم يعيشوا في فلسطين ، ومنهم الشاعرُ والرسام والقائد المنظم والجندي والمعلم ، وهم ظلوا يرونَ فلسطين هي الجنة وأن ما دونها هي الجحيم ، كما إن جزءاً كبيراً ممن عاشوا داخل فلسطين أمثال " فتحي الشقاقي " و" أحمد ياسين " ، استطاعوا التفريق بجدارةٍ بينَ الجنة والجحيم ، إن خللا ً قد أصابَ قنوات الاتصال بين هؤلاء أنفسهم ، وكذلك بينهم من جهة وبين " المخيم " الفلسطيني من جهة أخرى وذلك في مرحلة زمنية مهمة جدا ً قد انتهت بحلول أوسلو ، وها نحنُ نسألُ مرة ً أخرى ، هل قرأ شبابُ المخيم الشعرَ الذي كتبَ من خارج فلسطين إلى فلسطين ، وهل تأملوا اللوحات التي رسمت خارج فلسطين من أجلها ، وهل نظموا في الداخل (كما كان حال التنظيم في الخارج) – في صفوف فصائل منظمة التحرير مثلا – أو غيرها ، وهل حاولَ أحد في تلك الفترة تقريب وجهات النظر بين من يعمل خارج فلسطين ومن يعمل داخلها ، وبينَ ما هو إسلامي وما هو علماني الطريقة . لم يحدث هذا وإن حدثَ فإنه لم يكن بالكيف ولا بالكم المطلوب .
فلقد بقي العاملُ يكدحُ حولَ المخيم ، والمزارعُ يفلحُ قربَ المخيمْ ، وكلما ضاقَ الرزقَ زادَ عدد العمال من الفلسطينيين في إسرائيل ومستعمراتها ، وهذا يوضحُ كم كانت إسرائيل أقرب إلى عقل المواطن الفلسطيني من غيرها ، وإن عقلا ً جائعا يعيشُ في جمجمةٍ فلسطينية ويحاط ُ بالسموم المحلاة إسرائيليا ً يلزمه الكثير من الأفكار المنظمة حتى لا يخدّر . ولقد احتوت المدارس في قطاع غزة على تاريخ مصر الفرعوني تحديدا ً بدلا ً من تاريخ فلسطين ، وفي الضفة كان المنهج الأردني البعيد كل البعد عما يحتاجه العقل الفلسطيني في مخيمات اللجوء .
وإن الانتفاضة التي امتدت من 1979 وحتى 1993 لم تكن إلى ردة فعل ٍ نابعة من قلوب الفلسطينيين لا عقولهم ، وهي التي كانت بيئة خصبة ً لزرع أكبر قدر ممكن من العوامل التي تخدم إسرائيل ، والتي يقف في أولها تدمير البنية الفكرية من خلال فوضى الأحداث لدى اللاجئ الفلسطيني ، ولقد ساعد على ذلك غياب الخطاب التحليلي الفلسطيني بشكل كبير وانكفائه على الخطب والخطابات الأخلاقية والتحريضية ، إن الخلق الوحيد الذي كان يحتاجه اللاجئ الفلسطيني آنذاك هو العقل ، وغيابه كان بيئة ً خصبة لنمو العوامل التي تخدم إسرائيل في تحضيرها لبناء القواطع الفاصلة بين أقطاب الشعب الفلسطيني .
ومن هناك بدأت مسيرة التناحر بين سلطةِ أوسلو بمبرراتها ، وسلاحُ المعارضة بمبرراته ، ولقد نجحت إسرائيل في خلق المبررات المنطقية لوجود كل منهما ، فبات الاختلاف واضحا ً راسخا ً ، ثم أصبحَ أكثر تعقيدا ً مع شروع السلطة في تنفيذ بنود أوسلو ضد المعارضة ، والأخيرة ُ لم تفتأ أبدأ عن التحريض ضد السلطة ، واستغلال كل ما تخلقه السلطة من تقدم في طريق المفاوضات من أجل التحريض عليها ، وعليهِ فقد ضمنت إسرائيل جيلا ً محشوا ً بالتناقض ، وشعبا ً منفصم الشخصية .
إن شعبا ً انفصمت شخصيته إلى نصفين ، كل نصفٍ يحاول صرع النصف الآخر ، لشعبٌ يسهل إحراجه وتطويقه بكل بساطة ، ولقد جاءت الأجندات المصلحية من الخارج ، فلم يكن – أغلب - الدعم المقدم إلى الفصائل العسكرية على امتداد انتفاضة الأقصى حبا ً في فلسطين أو بغضا ً لها ، فلم يكنْ يعنى بتحقيق أي مستوى من الجودة داخل صفوف النضال الفلسطيني ، بقدر ما هو معني باسمرار هذه الشعلة ليسَ إلا (...) ، هذا العامل ، واغتيال الرؤوس العاقلة في صفوف الشعب الفلسطيني ، أدى إلى تشتت حركات النضال المنتفضة في فلسطين ، وتعاظم الخلاف بينها من جهة ، وبين السلطة المقصوفة كل مقراتها ومراكزها وبنيتها التحتية من جهة أخرى ، شخصية ٌ يصرع نصفها الآخر ، مسألة حياة أو موت .
وهناك ، لم يعد الشعب اللاجئ بحاجة إلى مخدر ، فلقد وصل إلى حالة من الترنح كافية ً لجعله لا يستهجن أي غريب ، أشبه باللامبالاة .
فليس غريبا ً على شابٍ لا يعرفُ شيئا ً عن المراحل الأولى للمشروع الوطني – إلا من خلال التحريض – أن يصوبَ رصاصَ بندقيته على أصحاب هذا المشروع ، وليس غريبا ً أن يكون هذا المشروع قد أنهك بعد أن أثبتَ عدم جدواه – بفعل المعارضة ، ومماطلة إسرائيل .
كذلك ليسَ غريبا ً ألا يلتفت شبابُ الجامعات بجدية إلى قضية خصخصة السجون الإسرائيلية على سبيل المثال ، لقد أصبح مثل هذه القضايا من اختصاص قنوات الأخبار فقط ، وكأنها لا تمسّ كرامة الشارع الفلسطيني .