كنت وزميلتي (إستيلا) من ضمن الطاقـم المشرف علي المعسكر – معسكر إيواء النازحين بمنطقة ما جنوب العاصمـة الخرطوم – قبل عشر سنوات تقريباً– المعسكر خصص لإيواء النازحين الفارّين من الحرب في جنوب البلاد ويقوم علي إيواء النازحين الفارين من الموت بإعادة تـأهيلهم وإسـعافهم من خطر الموت والأوبئة . ورغم ضعف الإمكانات كنّا نقوم بتضميد جروح الأرواح أما جروح الأجساد فهي للطاقم الطبي والأطباء ، كنا نقوم بحصر الحالات وتحديد مناطق النزوح والأسماء ورفعها لإدارة المعسكر ، كان النازحـون من مناطق شتى فالحرب قد شملت كل أرجاء جنوب الوطن الحبيب في ذلك الجزء منه ، كانوا يحملون ذكريات نازفة عن أهوال وفظائع حفرت عميقاً في دواخلهم وأدمغتهم يستحيل محوها أو نسيانها في يوم من الأيام !!!!! ، كنّا كمشرفين علي المعسكر نقترح بعض المعالجات والحلول البسيطة ، أنا و( إستيلا) نشكّل ثنائياً ممتازاً في العمل لإيماننا بجنون الحرب والفظائع التي يرتكبها أولئك الناس تحت مسمّيات يبتدعونها ويصوغون لها المبررات والدعاوى الباطلة ، ولأننا مقتنعين ببطلانها وسقوطها أمام قناعتنا بضرورة وحتمية إيقافها فوراً ، (إستيلا) رفيقتي الحسناء من جنوب البلاد، سمراء وسمرتها زيتونية.... كحلية اللون أن شئت الدقة ، حين تبسم يضيء وجهها كشروق الشمس ، ونعمل معاً كماصّات تصادم في العربات ونحسّ في دواخلنا إحساساً دافئاً بالرضا ، وبأننا والنازحـون والأطفال منهم خاصة إننا خلقنا لبعضنا البعض وأننا أسـرة واحدة كبيرة العدد ، .. أب هو أنا، ... وأم .. (إستيلا) وأبناء وبنات وخالات وأعمام وأقارب وأبناء خؤولة وعمومة هم النازحـون والنازحات، وأبناء هم أطفال المعسكر بالرغم من أن (إستيلا) متزوجة ولها أبناء وبنات أحبهم كأبنائي يركبون على أكتافي وكأنّي دابة أليفة !!! وزوجها صديق بل هو أخ لي ، كان أطفال المعسكر ينادونني بكلمة (داد) التي تعني بالإنجليزية (أبي) وينادون (إستيلا) بـ(مام) بمعناها الذي تعرفونه ، كانت سعادتنا لا توصف لإبتسامة طفل مشرّد بائس أو لضحكـة عجوز سقطت أسنانها ونسيت طعم الضحكة وراء ظهرها في قرية تشتّت أهلها في كل اتجاه كمزهرية رخام سقطت علي البلاط فتشظّت وتناثرت أجزائها في كل مكان !، وتسعدنا لأيام طوال فرحة جائع شعر بالشبع بعد أيام من نسيانه لهذا الإحساس والشعور المؤلم المقيت لأننا أسرة واحدة كبيرة وممتدة ، وبرغم سعادتي بعملي إلا أنني كنت كثيراً ما أهرب أمام دمعـة سفحها طفل مريض أو عجـوز يتألم وكذلك (إستيلا) رغم محاولتنا إقناع أنفسنا بأننا لا نستطيع كفكفة دموع العالم!، ورغم محاولتي اقناع نفسـي بأنني رجل والرجال يتألمون ولا يبكون ... فشلت .
لاحظت منذ أيام أن أحد الأطفال الوافدين حديثا ً للمعسكر يبكي في صمت وبدموع لا تنقطـع فعزوت ذلك لكونه جديد بالمعسكر وقلت في نفسي :- غداً يتعوّد الحياة هنا وبمرور الأيام سيدفن مأساته تحت كـومة الأفراح التي سنطمر بها أتراحه ولن يعثر علي قبرها مهما اجتهد في ذلك ، كما لاحظت أنه يتبع (إستيلا) كظلها وإنها تهتم به أكثر من اهتمامها بكل الأطفال ، أخيراً لاحظت أنها بدت تزهد في الطعـام وتكتفي ببعض
أكواب الشاي وأحياناً القهـوة غير المحلاة بالسكر ، وأحياناً كثيرة تكتفي بكوب من العصير أو تكتفي ولساعات طوال بسندوتش صغير من الجبن أو رغيف وكوب من الشاي الأحمر !!!.
سألتها عن سبب شحوبها وزهدها في الطعام ولحّيت في الطلب ، قالت بعد أن أدارت رأسها بعيداً..
:- بيتر .
:- ما به ؟!
:- أسأله.
هذا الصغير ذو العينين السوداوين ، لم أر في حياتي أجمل منهما ، ...بياضهما كاللّبن حين يحلب من الضرع أول الصباح وسوادهم ليل المظلومين التعساء !!!، جعلتها تترجم لي ما يقول فقالت :- لا يثق بك فأنت منهم ، أضافت ، يقول لي لا تثقي بهم .
قلت: - أنا
معه وحزين لحاله . نظر في عيني كأنه يقرأ كتاباً جديداً ولم يقل شيئاً.
قالت :- لا تثقي بهم فهم أعداءنا ما دمنا أحياء وما دامت الشمس تشرق كل يوم والكـون يدور حولها ، لقد قتلوا أهلنا .. ، ثم أضافت:- يقولون له ذلك وهو يصدّقهم ، فجأة وهو يحدثها رفع ساعديه النحليتين وجعلهما متصالبتين أمامه وكأنهما شفرتا مقص تم جـعل يحركهما عكس بعضهما البعض ، قالت:- يقولون له أن أجدادكم وأجدادهم يتقاتلون حتى إن عظام موتاكم وموتاهم في قبورها تحت الأرض تتقاتل دون توقف ولو لثانية لالتقاط الأنفاس أو الاستراحـة إلي يوم الدين، ...وهي تتقاتل في الظلام تحت الأرض في قبورها ومراقدها السحيقة ولا تهدأ !!.
حين جئت ميناء كوسـتي مودعاً (إستيلا) وأسرتها - بعد أن قرر الجنوب الإنفصال - لم أك أصدّق إننا أصبحنا دولتين !! .
كان يقف بجوارها شاب وسيم ذو بشرة سمراء لامعة في العقد الثالث من عمره ، تذكّرت الطفل بيتر ، نظر إليّ نظرته لكتاب قرأة سابقاً وها هو يستعيد تفاصيل ما قرأ ، هرب مني بمجرد أن التقت عينانا لداخل الباخـرة ، وقفت علي الشاطئ أرقب الباخرة تدير محركاتها وحين رفعت بصري كان يقف علي السطح ينظر في الماء غير مصدق لما يراه ، رفعت يدي ملوحاً للجميع مودّعاً ، ثم شبكت أصابعي أمامي ، حينها فار الماء وغلى تحت الباخرة ، والباخرة تدور حول نفسها حتى إستقبلت مقدمتها جهة الجنوب ، حينها صعد الركاب سطـح الباخرة وهم يلوّحون ، لوّحت لهم للمرة الأخيرة وأيدينا فوق رؤسنا ، .... ما زلت أرى الشاب بيتر رغم تلك المسافة البعيدة يمسح دموعه بظهر يده ، حينها رفع كلتا يديه ملوّحاً ثم شبكهما فوق رأسـه صائحاً بأعلى صوته :-
منقو . منقو .. ، ثمّ حسرت الباخرة ثوبها عن ساقيها وهي تغوض النهر وتملّس سطح الماء من خلفها ثم اختفت كأنها حلم تبخّر .


كوستي، مدينة وميناء على النيل الأزرق على الحدود الجنوبية للسودان الشمالي