الجثث
قصـة قصيرة
بقلم: فائز حسن العوض
ذات صباح بارد وقطرات المطـر الخفيف يطلً كل شئ بذراته الناعمة كالأسلاك من حين لآخـر دون أن يتوقف منذ ليلة البارحـة، كان قد غسل أوراق الشجر وأزال عنها الغبار فازدهت بالخضرة كما روًى سقوف المنازل المسطحـة ونفخ الأبواب الخشبية فاستعصت على الفتح بسرعة ، أمًا الزنك المطلي باللون الأخضر في كل البيوت على الأبواب والنوافذ فقد اغتسل وصارت خضرة الطلاء تضاهي خضرة أوراق الأشجار ، وفاحت في الأرجاء رائحة الرمل المبلول ، ...البيوت ممتدة بمحاذاة الشاطئ .. متلاصـقة ، ..متشابهة ، .. مكررة كأنها بيت واحد ولا غرو فهي بيوت حكومية كانت تبني بنفس الخارطة وبنفس الطريقة ويشترك في بنائها نفس البناءون والعمال أيام كانت تشرف علي بنائها وزارة الأشغال والتشييد قبل أن تحل بمؤامرة !!!! ، ...كان قوس البحر يمتد حتى أطراف البيوت الحكومية في هدوء كأنه شخص يسترخي على جنبه ذلك الصباح حين طرق أحد رجال الشرطة بزيًه العسكري الباب الأوسط من سلسلة البيوت المتراصـة قبالة الشاطئ ، فتح الباب بجهد وسحب بأخشابه المبلولة المنتفخـة بفعل المطر وأطلً منه رجل وقور تجاوز الستين من العمر، يضيئ فوديه شيب أبيض ناعم بدا كثلج على جبال .
قال الشرطي :- نأسف لإزعاجك لكن هناك جثـة بمحاذاة وقرب بابكم بالشاطئ وأشار ناحيتي !!!، كنت أرقد منكفئاً علي وجهي ببنطالي الجينز وقميصي الأزرق وجزمة القماش الكحلية ، تهزًني الأمواج كطـفو من الفلين ، قال الرجل الوقور وهو ينظر ناحيتي :- معتصــم ؟!! .
قال الشرطي :- تعرفه ؟!.
رد الرجل :- لا. ، .. أبداً . وقد فوجئ بالسؤال وشعر بالحرج لخطأ ما كان ليحدث !!
وما هي إلا دقائق معدودات حتى إمتلأ الشاطئ برجال الشرطة بزيهم الرسمي ورجال المباحث بزيهم المدني ، كما جاء نفر من خفر السواحل علي قارب مطاطي ولفًوني بملاءة بيضاء عريضة دون أن يخرجوا جثتي من الماء وربطوا أطراف الملاءة بحبل من البلاستيك حتى لا تسحبني الأمواج بعيداً عن الشاطئ . حين طرق الشرطي بابنا كنت أنا – سوسن- ( البنت الصغرى) لأبي - توفيق - الرجل بالشيب هلى فودية والموظف الذي دخل السن المعاشيه أكنس حوش دارنا حين سمعت صوت الشرطي يقول هناك جـثة طافية قرب بابكم فأصابتني رعشـة واعتراني خوف ورعب شديدين وكدت أتبوًل علي نفسـي ! . حاولت الاقتراب من الباب فانتهرني أبي وطلب مني الدخـول لغرف البيت الداخلية والتزام الهدوء ، كنت أحسً أن شيئاً يطوًقنا جميعاً ويحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم !!!.حين دخلت غرفة المعيشـة وجدت أختي الكبرى سناء ممددة فوق سريرها تلفً نفسها بالملاءة بأحكام شديد وتبدو نائمة بعمق لكنها حين نبح الكلب البوليسـي خلف الباب نباحاً غليظاً مخنوقاً هبت واقفةً دفعـةً واحدةً وهي ترتجف.
قلت :- ماذا هناك يا سـوس؟!!،
ردت عليً :- وجـدوا جثة قرب بابنا والشرطة تتحرى في الأمر .
قال أبي :- يا بنات تحلًين بالصبر ، هناك جثـة على الشاطئ قرب الباب تشبه معتصم وربما يكون هو نفسه !!!! .
قالت :- سـوسن مذعورة : معتصم ؟ !!
قال أبي :- ربما يكون هو .. وربما شخص يشبهه ، لذا تحلًين بالصبر حتى يتضح الأمـر .
حين وصل رجال المباحث والطب الشرعي قلبوني علي ظهري وبحلقوا فيً وقال أحدهم لا شيء يلفت النظر !، لا جروح أو طـعنات لا كدمات ولا خدوش فربما تكون الوفاة طبيعيـة ، ثم تحسًس جمجمتي وفتح عينيً بالتناوب وقال :- يجب نقله للمشرحة لمعرفة أسباب الوفاة.
سحبوني ووضعـوني داخل كيس بلاستيكي أسود وربطوه عند رأسي . وأسرعوا بي للمستشفي ، كان صوت الإسعاف يبعد العربات الأخرى عن طريقنا فتهرب مسرعة لجانب الطريق ، حين وصلنا البوابة الرئيسية للمستشفي كان البوًاب قد فتح ضلقنا الباب وأبعد الجمهور الواقف بإشارة من يده فلم يعد هناك ما يعيق دخولنا بأسرع من لمح البصر فوجدت نفسي ممدداً علي الطاولة المسطحـة بملابسي كاملةً يحيط بي الطبيب الشرعي وطاقمه ، وبعض طلبة الطب ببلاطيهم البيضاء يضعون كمامات فوق أنوفهم ، بدأوا عملهم بقص ملابسي وباشـر الأستاذ الدكتور عمله ، بدأ برأسـي وجمجمتي مروراً بالعنق وفقراته ثم الصدر فالبطن حتى أخمص القدمين ، ثم ثني ركبتيً وفردهما ، ثمً أخرج مشرطاً كأنه مرآة في الشمس وشق به البطن ، وبمنشار كهربائي شق الصدر ، أخذ قطعة من رئتي ووضعها في صحن به ماء فطفت ، قال لطلبته لم يمت غرقاً !!. تفحًص العنق وحرًكة يمنة ويسرة ثم بعدسـة مكبرة وقال دون أن يلتفت ناحيتهم لا توجد آثار خنق ، ثم شـق التجويف البطني وشق المعدة داخل صحن كبير وسحب من السوائل والرغانوي بأنبوب زجاجي أعطاها لطلبته وقال لهم أفحصوها معملياً . ثم أخذ عينات من إمعائي وكبدي وأجـزاء من الطوحال وطلب منهم إخاطة الشقوق والفتحات التي أحدثها بمشرطـة الاستيل ، أخيراً طلب أخذ عينات من دم الوريد وبقايا الطـعام من المعدة، في تلك الأثناء كان رجـال الشرطة والمباحث يجمعون التقارير والمعلومات عنًي .
قال أحدهم :- لا يوجد لديه أعداء ظاهرون ولا مشاكل مع أحد !! .
اسمه معتصم المجذوب عبد العزيز ، أربعون عاماً ، عازب .. موظف بالدرجـة الخامسة منضبط .. لا يشرب الكحول ولا يتعاطي المخدرات ، مرتبط وخطيب البنت الصغرى للأستاذ توفيق .
بعد جهد مضن قام به رجال المباحث وبعد تحريات عني وعن أصدقائي وآخر شخص كان في معيتي كتب الطبيب الشرعي أسباب الوفاة ... تسمم بمادة قاتلة شديدة السميًة ولا تقل عن مادة الزرنيخ القاتلة ، وتصنف من أشد المواد سمًية وتؤدي للوفاة بمجرد وصولها للحلق . وتوجد في سم الفأر !!!! ،
بدأت الشرطة بحصر وتدوين الاتهامات بدءاً بأسـرة الأستاذ توفيق وابنتيه سوسن وسناء فقامت بتفتيش المنزل ووجدوا كيساً متوسط الحجم به مادة بيضاء ناصعة البياض إتضح بعد الفحص إنها سم الفأر. ومن نفس المادة التي وجدت بمعـدة القتيل فتم استجواب الأسـرة فرداً فرداً .
:- اسمـك ؟
:- توفيق عبد الرسول.
:- العمـر؟
:- إثنان وستون عاماًِ .
:- المهنـة ؟
:- موظف بالتعليم ، الدرجـة الرابعة .
:- الحالة الاجتماعية؟
:- أرمل، وأب لبنتين ، سـوس ( الصغرى ) وسناء ( الكبرى )، ماتت أمهما وتركتهما عندي أمانة في عنقي فقررت أن أعيش بقيـة أيامي لهما وحدهما واكتفيت بهما عن الدنيا ، سناء موظفـة بوزارة الزراعـة وخريجـة جامعة الجزيرة – كلية الزراعة ، وسوسن طالبة بجامعـة السودان ، تدرس الاقتصاد بالسنة النهائية .
:- وماذا تعرف عن معتصم .
:- شاب ، مهذب ومجتهد وخطيب ابنتي سوسن وينويان الزواج بعد تخرًجها ، وبعد عدة أسئلة تحمل اتهامات مبطًنة طلب رجال المباحث مقابلة البنتين . بدأوا بالخطيبة (سوسن ) .
:- ماذا تعرفي عن معتصم ؟! .
شـعرت ولأول مرة بمقدار الفجيعة التي ألمًت بي الآن – أنا خطيبته والمفترض أن نتزوج بعد تخرجني ، فانهمرت دموعي أغزر من مطر البارحة، لا يعقل أن يتهموني بقتل الإنسان الوحيد الذي أحببته لأول وآخر مرة في حياتي ، والمفروض أن نشبك أيدينا حتى آخر يوم في حياتنا . تماماً كأمي وأبي ، ونظل نحب بعضنا حتى موتنا . الرجل الذي قلب حياتي رأساً علي عقب !! . كان شفيفاً كالماء الصافي .. ترى الأشياء من خلاله ، رقيق، مهذب، ولا يكذب أبدأ . رأيت السماء لأول مرة معه بلونها الأزرق بعد أن كنت أراها بيضاء شفافة كالفراغ ، لأنه هو من لوًن سماني باللون الأزرق! ، ومعه عرفت الأزهار لأنه عرًفني بها وأحببتت الفراشات الملونة ولم أك أراها إلا بعد أن عرفته !! . ولأول مرة أسمع زقزقة العصافير وخرير الجداول لأنها لم تكن قبل حبًة لي تجري بالمياه ، ولأول مرة انفصلت روحي عن الأشياء حولها وكنت متحدة بما حولي تماماً كالأطفال متحدين بالآخرين !!، ... والآن سأعود متحدة بالأشياء من حولي مرة أخرى والتماهي فيها إلي ما لا نهاية !! . لا يهم أن أصبح كوب ماء أو آنية طبخ فالامر سيان عندي ، لا يهمني أن صار لون السماء أسوداً أو بلون الدم !!، سيان عندي .. لا يهم أن هطلت الأمطار أو رحلت الفصول !!، .. أشرقت الشمس أو لم تشرق !!! ، أو حتى غابت دائرة القمر !! ، لمن ألبس فسايتني الآن ؟!!، ...كنت أتعطر لأني أحب كل ذرة هواء تدخل رئتيه أو تحيط به أن تكون معطرة بعطري ! ، وتظل عالقة بذاكرته، .. أحببت الشعر لأنه يحبه ويتذوقه ويطرب له .أحببت القمر والنهر والنخيل لأنه يحبها جميعاً ولأنها بعضه ومنها سحر عينيه وكانت أنا لأنه كانها !!، والآن صرت لا شيء . التفت المحقق ناحية سناء .
:- ماذا تعرفين عن معتصم ؟!!
قلت :- يستحق كل ما جرى له ، تنهًدت لأطرد الهواء الثقيل بصدري .. كنت انتظر أن تكتشف صغيرتي سوسن هذا المخلوق الغريب، وتفيق من سيطرته عليها لأنني دخلت مداره يوماً قبلها ، واكتشفت إنني كنت ضحية له ، وإنني أسبح في مداره وأرى الدنيا بعينيه الناعستين ، وأن الدنيا لا تمطر إلا حيث تنظر عيناه ، وأن الحشاش لا تنبت في أرض لم تطأها قدماه وأن الأعشاب والأزهار والجداول والعصافير لا تطير إلا باتجاهه هو وحده أو هكذا كنت أظن بعد أن عرفته ولكنني اكتشفت كذب عينيه بعد أن كنت أعبدهما وأعبده لبراءته وأقدًس الأرض التي يمشي عليها فاكتشفت أنه أحبً أختى الصغيرة بعد أن جعلني سلمة لها ، قتلني ومشى في جنازتي !!!. ، لم يهتم أحداً برأيئ ولم يسألني أحد حقيقة مشاعري ولا ما جرى لي ولو سألوني لقلت لهم الحقيقة التي أعرفها وهي أنني – الجثـة- التي صاروا يهتمون لأمرها الآن .. لقلت لهم إني إنسان بسيط وموظف عادي خلوق لأبعد حد . وإني لا استحق ما جرى لي .. وقلت لهم إنني أعول أسرتي ونفسي بمرتبي الصغير، وأحاول أن أبني نفسي وأساعد أخوتي لمواصلة دراستهم فأتكفًل لهم ببعض المصروفات، وإنني جئت منقولاً لهذه البلدة وأول من تعرًفت عليها كانت سناء،... أختى التي غمرتني بكل معاني الإخوة والصدق ، عملنا سوياً بمكتب واحد ، ولا أنكر إني دخلت دارهم بدعوة منها لأنها فتحت لي دارها كأني شقيق أو هكذا اعتقدت أنا . وستظل الإنسانية الرائعـة التي أسعدني الزمان بمعرفتها ، لكنها اعتقدت وفسًرت تلك العاطفة النبيلة – الإخوة – حباً ؟ ! ثم اكتشفت – أنا – إنني أحب أختها فصرت أتجنًبها لأني سأرتبط بأختها وإنني جاد في ذلك . ولكن وللأسف اعتقدت هي أن ذلك خيانة وطعـنة في القلب لا تغتفر في حقها !، فقررت مغادرة البلدة بعد الزواج بأختها التي لم أك أتخيل حياتي بدونهاَ ! ، إلي أن جاء ذلك اليوم الذي جئت فيه لأحدد تاريخ زواجنا، .. تركتنا أنا وأختها – خطيبتي – وحدنا ، ثم جاءتني بكوب عصير مسموم، .. شربته فشعرت بالآم حادة وغير محتملة في أحشائي ، صار الألم يشتد كل لحظـة فاستأذنت وخرجت مسرعاً وقررت أن أذهب للمستشفي ولكن لأن الدنيا قد أظلمت وانعدمت عربات الأجرة وصارت نادرة في تلك اللحظـة قررت المشي ريثما تمرً بي عربة تحملني للمستشفي ، حين صعدت الجسر المؤدي للجهـة الأخرى من المدينة وعند منتصفه تقريباً شعرت بدوار ولكني تحاملت علي نفسي وكنت من حين لآخر أسمع صخب الأمواج من تحتي وشعرت بأنني أهوى من فوق الجسر!. أكمل رجل التحري حديثه :- بعد سقوط القتيل من فوق الجسر سحبته الأمواج لكن الغريب في الأمر أن تسحبه لتلقي بجثته أمام دار خطيبته بعد أن حلمته وطافت به بشكل دائري وبطول الشاطئ الممتد بمحاذاة البيوت مسافة تمتد لأكثر من ميل ولم تدر به في الاتجاه الآخر، وإن إرادة الله وحدها أرادت أن تفضح كل شيء فلو أنه مات غرقاً لأكلته الأسماك المتوحشــة بهذه المنطقة أو ربما تحللت جثته، ولو سارت به في الاتجاه الآخر لضاع خيط التفاصيل وانقطع .
أخيراً اعترفت سناء بجريمتها وحكم عليها بالإعدام شنقاً ومات أبي توفيق- هزمه الفشل في الحياة وعدم نجاحه لإكمال دوره ولعله لم يعد يتمسًك برغـبة الحياة . وقررت أنا – سـوسن – صرف النظر عن الزواج بعد أن مات حلمي في الدنيا . ذات يوم وجدت نفسي أمرر أصبعي فوق رخامة القبر البيضاء المحفورة وعلى الكتابة تماماً ويعلق الغبار بأصبعي .
معــتصم المجذوب عبد العزيز .
ثم كتبت في فضاء الشاهد ، .. سامحني .. سأظل أحبك حتى وأنت ميت .

بـــقلم : فائز حسن العوض