القصة الفائزة بالجائزة الثانية (م) لمهرجان الثقافة السادس بالسودان 2016 م

تأمـُّـــــل

نظر الرجل المسن إلي الصورة ملياً ثم قال محدثاً نفسه :- هذا الرجل أعرفه جيداً ، رأيته كثيراً جداً لدرجـة أني حفظت تفاطيعه وأنا مغمض العينين ، لكني لا أذكر الآن أين رأيته ؟!!! ، ثمّ نظر للصورة مرة أخرى ، ثم أخرى وحكّ رأسه ، ثم أخرى وقال:- هاتين العينين الطيبتين ... الشعر الأبيض .. الأنف المعتدل الجميل .. ولكن أين رأيته أين .....؟!!، شارب رمادي بلونين أبيض وأسود يتماهى في لون رمادي ، ملامح طفولية بريئة ، العينان تبدوان اليفتين ، سمت وقور وشعور طيب بالرضا عن النفس بفيض ليغمـر محدّثة و من يجالسه .. يعتقد محدثة أنه لا يستمع إليه لكنه ينصت باهتمام كالأرض تبدو ساكنة في ظاهرها لكن باطنها يمور بالحممم البركانية، يبدو أنه كان وسيماً في شبابه هكذا تقول تقاطيعه ويبدو أن له معجبات كثر في شبابه ، .. لكن أين ... ؟! ..أين؟! ..أين؟! ظل يتأمل الصـورة طوال النهار ونهار اليوم التالي والأيام التالية دون جدوى !!!، ظل يخرج الصورة ويتأملها كلما سنحت الفرصـة لذلك ، لكن دون أن يهتدي لصاحبها حتى أعياه التفكير والتأمل دون أن يهتدي لشيء حتى نهاية الأسـبوع ، ثم نسي أمر الصورة ، لكنه حين أدخل يده تحت الوسادة اصطدمت فجأة بالصورة فأخرجها وجلس بمنتصف السرير يتأملها ، دقق النظر فاكتشف أن بها ندبة فوق الحاجب الأيمن ، قال في نفسه :- هذا أول خيط والبقية تأتي ، في اليوم التالي نظر إليها ملياً دون أن يكتشف حديداً فأعادها لمخدعها قائلاً لنفسـه لست عجلاً طالما اكتشفت أول الخيط . في مرة أخرى اكتشف بظهرها ختماً عليه تاريخ وحروف بلغة أجنبية فقال في نفسه :- هذا هو امتداد الخيط ، إنه تقدم لا بأس به وسأكتشف بقية التفاصيل لاحقاً فنام هنيئاً مرتاح البال . صبيحة اليوم التالي حين دخلت عليه الفتاة الشابة أخفى الصورة ورسم علي محياه ابتسامة طيبة والكثير من الهدوء والاطمئنان وقال :- كيف أصبحت ؟، ثمّ فرك يديه بانتظار إجابتها ليبدأ أسئلته لكنها قالت بهدوء وبرود صباح الخير ، .. سوّت الفراش دون أن تضيف أية كلمـة أو تنبس ببنت شفة فهبطت حماسته إلي أدنى مستوىً لها وقرر أن يتوقف عن متابعة ما فكّر فيه ، مسحت الأرضية والبلاط بممسحة رطبة ثم تبعتها بأخرى جافة وصبت بضع قطرات من فتيل به سائل أصفر اللون ففاحت في الغرفة رائحة الديتول النفاذة !! ، ثمّ نثرت في فضائها رذاذاً برائحة الورد الإنجليزي من بخاخ المعطّر مما أضفى عليهما شعوراً مفعماً بالإلفة وتقبّل الإثنين لبعضهما لمستوى أعلى فقرر الرجل أن يحاول مرة أخرى ، جلس علي حافة السرير يرتشف كوب الشاي ويتلذّذ بمضغ كعكة الكاكاو وهي تذوب في فيه كما تذوب قطـعة حلوىً قطنية طيبة وغمرهما معاً شعور بالرضا والسعادة ، .... حاول أن يقرأ في عينها عبارة تفكّ الطلاسم عن الصورة اللّغز ، أو شيء يشي بأية تعبير يفك لغز الغموض عن هاتيك العينين الحلوتين ! ، صبّت له كوباً آخر من الشاي فشربه بتلذذ لم يتذوّقه في السابق ، أدخل يده تحت الوسادة وأخرج الصورة ، نقّل بصره بين الصورة والفتاة فاكتشف علاقـة ما بين الإثنين !!!، حين همّت الفتاة بمغادرة الغرفـة سألها :- من هذا الرجل ؟!، لكنها لم تجب ، فقط أغلقت الباب بهدوء وانصرفت فقرر ألاّ يسألها أو يسأل غيرها حتى يكتشف الحقيقة بنفسه ، حين رفع بصره وقعت عيناه علي الصورة المعلقة علي الجدار المقابل بخيط علي مشجب مربوط لمسمار بزاوية حادة لشاب في الثلاثينات بكامل أناقته يرتدي بذة سوداء لامعـة وقميص أبيض بربطـه عنق حمراء بدت الصورة كأنها لثور أسود مذبوح والدم يتدفّق من نحره !! ، هبّ من مرقده فأنزلها وجعل يتأمّلها ولاحظ الشبه بين الصورتين لولا أن الأخير يبدو أكثر نضارة وشباباً ، إذاً فلا بد من وجود صلة ما بينهما !! ، وربما هما أقرباء ، قال في نفسه هذا هو امتداد الخيط ولا بد من عدم تركه يفلت ، ولكن أين رأي ربطة العنف الحمراء تلك ؟ ,,, أين ومتى ؟!، في تلك الليلة حلم أحلاماً كثيرة كلها تدور حول الصورة ، بعضها مفرح وبعضها محزن وقال في نفسه :- أنني أقترب من الاكتشاف النهائي وفك الطلسم ، لكن كثرة التفكير والتأمل أرهقته لدرجـة أن لونه شحب وجسده نحل وإصابة الهزال لكثرة التفكير باستمرار ، كان قد حسم أمره بكشف الحقيقة بنفسـه ودون أن يسأل أحداً ، لكنه وللأسف فشل أيضاً رقم إمساكه برأس الخيط ، أخيراً جازف بالسؤال والشابة تطعمه بملعقه الأستيل الناصع في اليوم التالي وبينما الملعقة في طريقها لفمـه وبمنتصف المسافة تقريباً ، غامـر بسؤالها :- من صاحب الصورة ؟؟!! ، دون أن يفتح فمه فبقيت الملعقة معلّقة في الهواء ، كان قد قرر التوقف عن الأكل حتـى لو أدي ذلك لوفاته ما لم يعرف السـر !!! . أطرقت الفتاة منكسرة ولوت عنقها الجميل كسيرة كسيفة حسيفة، كان قد توقف عن الأكل بانتظار إجابة. لكنه بدلاً عن تلقي إجابة لحظ عبرة تبلل العينين الجميلتين، قال وهو يكمل المغامرة لآخر الشوط :- .. وحتى أنت ؟! ، ماذا فعلت لكم لتعاملوني بهذه الطريقة ؟! أردف هل هـو مريض ؟! أهو ميت ؟! ، وهل أعرفه ؟! ، وما هي صلته بي ؟! ، ... أهو صديق قديم ؟! ، كانت العبرات تترقرق علي محجريها فمسحتهما بطرف ثوبها الأبيض ثم وضعت الملعقة علي الطـاولة ونهضت واقفة ثمّ استدرت نحو باب الغرفة وصفعت باب الغرفة وهي تخرج - لأول مرة في حياتها- بتلك الطريقة وهي تقول له بصوت باكِ. حزين

:- لم لا تتـرك هذه المــرآة اللعينة يا أبـــي ؟!!!.