فى روايتها " عندما تموت الملائكة " الصادرة عن مركز الحضارة العربية - القاهرة 2006 تقدم صابرين الصباغ احدى عشرة طلقة فى رواية تحاول الراوية فيها ان تدفع مولو دها الى الوجود الا ان المولود يأبى ان يخرج بالرغم من الطلق المستمر ومساعدة الام له حتى يخرج
والكاتبة فى هذه الراوية -نخص الحديث على الفصل الثالث المعنون بالطلقة الثالثة والتى تأتى بعد الطلقة الاولى التى تنتهى بان تقرر الام انها لن تلد وتحاول الهرب من الحجرة العمليات ثم تبدأ الطلقة الثانية والتىتستعيد البطلة فيها حياتها وذكرياتها ثم تأتى الطلقة الثالثة والبطلة تقص ذكريات عملها فى مستشفى الدكتور حسين - نقف فى الطلقة الثالثة عند علاقة المكان والزمان فى الوصف او" صورة السرد عند صابرين الصباغ"
ان المقاطع الوصفية فى الرواية تمثل وقفة زمنية ولذلك نجد نوعا من التوتر يسود النص بين دفع مستوى القص الاول الذى يندفع بالاحداث الى الامام على خط الزمن وبين جذب المقطع الوصفى الذى يشد النص نحو الاستقصاء والسكون :
(ترتديني ملابسي ، رغماً عني – عنها ، ترفض الذهاب إلى هناك ، أدخِل رقبتي في عنقها الرافض أن يشنقني ..
أمد يدي داخل أكمامها ،كأني أهتِكُ رفضها عنوة ، تلقي جسدها فوقي لتجعل حركتي أثقل ..!!
أخرج للشارع ..
الشمس تتوارى ، وراء غيمة صنعتها ، كأنها باب تختفي خلفه ، حتى لا تستمع إلى دقات قلبي الحزينة ..)
وهنا مع صابرين يستطيع الوصف ان يجذب النص ويجمده الى ما لا نهاية ومن هنا يمكن ان نتنبأ باتجاهين فى هذه الرواية أحدهما : يخضع لدفع الزمن "فيزمن" المقاطع الوصفية , والاخر يستسلم للاستقصاء "فيمكن" الزمن
وقد يتضح الفرق بين الصورة الوصفية والصورة السردية فى المقطعين التاليين :
(1) (أذهب إلى غرفته – غرفة مدير المستشفى – لم أجده فوق كنبته التي رأيته مستلقٍ عليها أول مرة - جلست أنتظره ...
مكتب مزدحم ،كأنه شارع لا ضوابط له ، لا إشارات مرور تحكمه ، فصار كالمجنون ، أوراق ، دوسيهات ، ظروف ، رسائل ، أكواب شايٍ فارغة ، فناجين قهوة ، منها من يقف محترماً ، من ينام على جنبه ، كأنه مرهق من السهر ، خلف المكتب ..!!
مكتبة كبيرة تقف شامخة كأنها عشيقته ، ، مملوءة عن آخرها بالكتب ، بكل الأحجام ، مرتبة ، نظيفة ، لم تلمسها يد ، لم تربت عليها عين منذ قرون ، ملفات منتشرة هنا وهناك ملقاة في كل الأركان ، أمام كنبتهِ ..!!
منضدة تقف حزينة ، أكاد أسمع صراخها مما فوقها ، مطفئة بها بقايا أجساد لسجائر منتحرة حرقاً ، أوراق فارغة ، أخرى غارقة بمياة الحبر ، غيرها ممزقة ، ملقاة بعيداً ، أسمع أرتجاف أخواتها ، من الخوف على مصيرهم ، كأس صغير ، تحاول العيش داخله بعض قطرات من سائل أحمر ، زجاجة نائمة على جنبها في حالة سُكر ، فارغة من عناء السهر ..!!
فوق الكنبة ، ( تابلوه ) به بعض المقالات بالجرائد ، عن الدكتور ومهارته ، المستشفى ، رقيها وعظمتها ، قبل أن أنسى الجدران ، تكتسي بآلاف من شهادات التقدير للدكتور )
(2) (أفتح المظروف .. به نقود ، عرفت أنها أكفانٌ أجمع فيها جثمان عذريتي ..
بدأ يتحرك جبل الشهوة متصدعاً ، رعشة أمسكت بقدمي ، بدأت تتسلل في أنحاء جسدي ، كأن مياة الخوف المثلجة تغمركياني ..
- لماذا هذه النقود ..؟ لم أفعل شيء بعد ..؟
- إنها لكِ .. أشتري بها ما ينقصك ..
بدأ يتحرك ، يستند بطرف المكتب خشية وقوعه ، أسرعت ..
- هل لي بكوب ماء ، من فضلك ..
- يال غبائي .. لم أقم بواجب الضيافة ..
ما إن يخرج من باب الغرفة ؛ ألقي مظروف المهانة - نقود العُهر - على مكتبه النجس ، أطلق لخوفي العنان يمسكني من يدي لنهرب - أركب المصعد - ينادي عليَّ ، إرجعي ، لا تخافي ، تعالي ..
بصندوق هربي ، أحتضن نفسي ، التي كدت أفقدها ، أبتلع ثباتي ، شعرتُ أن الدور الأرضي بيني وبينه كما بين السماء والأرض ، أجمع حبات عرقي في منديل ، ألقيه بعيداً لأنها تحمل رائحة الخوف النتنة من هذا اللقاء البغيض .... )
اما الاول فيعود الى جذور قديمة والى تقاليد الملحمة الهوميرية فيربط الوصف وصف الاشياء بالفعل فاذا جاء وصف الملابس فانما يأتى اثناء ارتداء الشخصية لها (ترتديني ملابسي ، رغماً عني – عنها ، ترفض الذهاب إلى هناك ، أدخِل رقبتي في عنقها الرافض أن يشنقني ..
أمد يدي داخل أكمامها ،كأني أهتِكُ رفضها عنوة ، تلقي جسدها فوقي لتجعل حركتي أثقل ..!!)
وتختلف الصورة الوصفية عن الصورة السردية فى ان الاولى تصف ساكنا لا يتحرك
اما الثانية فتدخل الحركة على الوصف اى تصف الفعل
اما فى الشكل الاول فالكاتبة تسقط العناصر المكونة للشىء الموصوف على النص الروائى فيخضع الوصف الى خطية الكلمة والنص الادبى وزمنيتهما ولكننا فى نفس الوقت نجد توقفا فى زمن القص فان تجزئة الشىء الى عناصره المكونة وتناولها تباعا يفسد تناولها كتلة واحدة ويخضعها للتزمين
لكنه تزمين مفتعل لانه لايترجم حركة حقيقية
وقد تدخل الكاتبة ( وفى اغلب الاحيان تضطر الى ذلك ) ظرف الزمان على النص الوصفى دون ان يكون له فى الحقيقة معنى زمانى فبالرغم من ان الزمن متوقف فان الزمن النصى يسير الى الامام دون ان يتحرك القص اما الصورة السردية فانها تتميز بالحركة وادخال الفعل فى المقطع الوصفى يزيل التوتر القائم بين القص والوصف ويوجه النص الى الحركة
ولاشك ان صابرين الصباغ قد زمنت الوصف فى روايتها " عندما تموت الملائكة ط فاذا كان هناك توتر بين السرد والوصف فان السرد يتغلب عند الكاتبة وسرعان ما تنتقل من الوصف الساكن الى الوصف السردى
ولا شك ان هذا الاسلوب فى الوصف السردى يؤكد نوعية رواية الخاصة
واذا كانت المقاطع التى تمثل الصور لم تتجاوز ثلث الطلقة الثالثة فان الصور السردية تمثل مجمل الفصل الثالث بأكمله وتلعب دورا هاما فى نسيجها ذلك ان تراكم هذا الوصف السردى يركز على تصوير البطلة فى حياتها اليومية ولا يركز على الاشياء
فكل طلقة فى الرواية تعد لوحة سردية واللوحة السردية عند صابرين لا تتناول وصف اشياء او شخصيات ساكنة وانما تتناول الحياة اى الحركة وذلك بادخال الفعل داخل المقاطع الوصفية:
(- هل تخجلين ..؟
لم أستطع الرد فالصمت أكل لساني وهضم حروفي ..!
- إقتربي ..
- قالوا : .. أن حضرتكَ تطلبني ..
- قلتُ لكِ اقتربي ، لا تخافي ، نجحتِ في الاختبار ، عرفتُ أنكِ ممتازة ، تطيعين الأوامر ..
تعالي ، نظفي المكتب ..
أبتلع لعابي ، الذى قرر أن يتكلس في حلقي ليخنقني ، أبدأ في تنظيف كل شىء - نائم على كنبته - يسحب روح سيجارته من قلبها عنوة حتى يمتص عمرها كله ، عينيه تصاحبني أينما ذهبت ، أخشى أن أنحني أمامه ، حتى لا تخرج قطعة مستورة من جسدي أمامه ..)
يخدم هذا البطء فى الفصل الثالث - والرواية باكملها- فى الحركة من خلال الوصف البناء العام لحركة الزمن حيث لا ثورة ولا انتقالات مفاجئة من حال الى حال ولانجد تطور ملموسا فى شخصية الرواية - البطلة - لكنه تطور يدب فى الشخصية دون علمها او درايتهاِ