قوارب بأشكال وأحجام وألوان مختلفة فى عرض بحيرة البرلس ، وشباك الصيادين الواسعة الفتحات تتشابك مع السمك البلطى ، ومياه البحيرة تتدافع إلى الطريق الإسفلتى متخطية الحاجز - السد المنيع - البتن - فتصير البحيرة براً ، ويصير البر بحيرة ، وتتوالى ضربات موجات البحيرة للبتن ، ويظل الصراع قائماً ومستمراً هكذا أعواماً وأعوام ، ويتقافز السمك من البحيرة خارجاً على الشط ، أو خارجاً إلى الأسفلت ، وسيارة أجرة واحدة تنتظر أحد المسافرين سفراً قصيراً إلى أبو شعلان " وش الغيط " أو سفراً طويلاً إلى الحامول - إن حالفه الحظ فى الوصول إلى هناك .
*****
وغريب قد كبر وشب عوده ، وبانت عضلاته المفتولة لأهالى بلطيم ، ونهره أبوه الحاج سعد عند رؤيته فحولة ابنه النائم الممد تحت تعريشة العنب ، وأعطاه عباءته ، وظل على هذا الحال إلى أن زوجه من البنت ولهانه ، واستقل فى بيت قد استأجره له من خميس الفران ، ودفع له أجرة شهرين متتاليين ، ونعم بما لذ وطاب ، وربى ولده راشد أحسن تربية ، وعلمه منطق القسمة والضرب ، وظل هو كما هو ، صياداً على مركب فى الليل ، وحمالاً للخبز والماء فى النهار .
*****
وهناك ، وعلى مركب منير ، فى البحيرة المظلمة الباردة ، يصعد غريب مركبه ، يتمايل ويتزن ، ومعه عدته الليلية ... قنديله المضئ ... وبراد الشاى ... وقطعة الجبن القريش ... وشقتان من الخبز الأسمر ، كل ذلك وضع بطريقة منتظمة داخل سبت لجريد ذهبى ، وقطعة من القماش الخاص بأغراض تنظيف المركب ...
- ابنى راشد كبر ومحتاج لقميص .
واستقر غريب فى المركب ، ونظر إلى مياه البحيرة ، فإذا بها صافية هادئة ، فقرر أن يتعمق داخل البحيرة ، فأمسك " بمدرته " ، وغمسها فى الماء ، وجرى المركب - تظن أنه ساكن لا يتحرك - فرفع غريب بصره لأعلى ، ليجد الاستقرار فى السماء ، فلا نجوم ، ولا قمر ، وأشباح لأضواء البنايات والبيوت تظهر له على مرمى البصر .
*****
وفى يوم من أيامه ، غطس غريب فى مياه البحيرة وطفى ، ليبصر نبات ذات لون أخضر داكن اللون بطول البحيرة وعرضها ، وجفاف يشق عرضها ، وكشك لجميل يسكن نهاره ، ودخان لسمكٍ مشوى يتصاعد من داخل البحيرة ، وسيارات أجرة ونقل ثقيل وخفيف تتسارع وتتسابق من أجل وليمة طعام أو شربة كوكاكولا ، ودكاكين على جانب لطريق الإسفلتى من الجهة اليمنى ، فارغةً أفواهها للجيوب المحشوة بالمعلوم .
وإذا بغريب يبتسم ابتسامة صفراء لما اصطاده ، وذهب إلى حلقة السمك يفاصل الناس فى سعره ، إلى أن باع ما يملك من ثلاث سمكات وسبت .
*****
وفى ليلة من لياليه غطس غريب فى مياه البحيرة ، وانتظرنا أن يطفو كما يفعل فى كل مرة ، فلم يطف ، وسقط وتلاشى ، ولم يظهر وجه غريب المبتسم على وجه البحيرة ، وظهرت أوجه الصيادين على صفحة البحيرة مليئة بالدموع لفقد غريب .