سلام الـلـه عليكم
أطلالة سريعة على نص " حقائب الرحيل " للأديبة منى الخالدي
قرأت " حقائب الرحيل " , فوجدت عنوانا , يحمل صورة حركية مركبة , لها ابعادها الواقعية والنفسية والرمزية , ولجت طويلا في الابعاد , ثم ومن حيث لم أغادر , رحت بين حنايا خفقات الألم والحزن والمعاناة , التي حفلت بها كل كل كلمة من النص الجميل الحزين , الذي جاء في فترة بعد منتصف الليل , حيث يضعف حاجز السيطرة الواعية لدى الفرد , لمصلحة تنامي الشعور اللاواعي , فتسيطر المشاعر الداخلية , ولعل الصورة جاءت واضحة معبّرة من خلال مشهد نافورة ماء غير منتظمة:
" تتلولب فيه الحروفُ ، مثل نافورةٍ تتراشق حباتها على أرواحنا جذلى ، ما أن أمسكنا بأولها ، حتى بدأت السطور الفارغة بالتيمم ومن ثم السقيا.." , وفي هذه الحالة اللاواعية , تتضرم المشاعر والصور والاحاسيس , ويصعب تنظيما في صياغات واضحة , فهي أشبه ما تكون بمتاهة :
" حاولت أن أكتب الكثير ، لكنني لم أفلح ، ففي داخلي نسيجٌ معقد التشابك ، كأوردة الدماغ التي تشبه المتاهة لو رأيتَ تفاصيلها.. "
يالها من براعة في التعبير عن الحالة ووصفها , ومع غياب الضبط الواعي للافكار والمشاعر , يصبح الانسان في خضم الاحاسيس والمشاعر وصور التجربة الانسانية التي هي نسيج نفسه وتكوينه :
" سهامٌ من الوجعِ مغروسة في دمي ، وكأنني لا أبرأ منه حتى لحظات ابتسامتي ، فكم تمنيت أن أكتب السعادة في سطورٍ يفرح لها كلّ من يقرأ لي ، لكن.. هل يستطيع الموجوع أن يزرع البسمة في قلوب الآخرين .."
"تلك الحياة التي أعيشها بكلّ تفاصيل غربتها ، قد وهبتني من كرمها كل ما يحلم به المرء المتشائم ، وما لا تتمناه نفسي من أوتار وجعٍ ، يعزف فيها صوت الفراق في كلّ ليلة على أوتار الرحيل.."
ومن البديهي أن يرتفع مستوى التوتر النفسي , من خلال مشاهد أكثر تفصيلية وتحديدا , هي الذكريات والتاريخ الشخصي :
"رحيل طفولتي ..وأجمل مراحل عمري التي أفنيتها خوفاً تحت جنح الظلامِ ، ووابل من رصاصات البكاء ، تخترق نهارا أجواء براءتي ، وتسلبني حق الطفولة الحقّة.."
"رحيل ربيعي الذي تمزق فستان عرسهِ على هجرٍ ظاهر ، وآخر باطن ، وأكفّ تصفع ، وأخرى تجرح ولا تبلسمُ "
وفي محاولة منطقية لاستقراء اسباب الحالة والتوتر والحزن , ترجع الكاتبة الأمر الى ما مرّ به , وما يمر به الوطن , ومحاولة ايجاد الميرر والمسوّغ , حتمية نفسية , يلجأ ايها اللاشعور لتخفيف الضغط عن النفس البشرية , تأمين منافذ تنفيس لخفض التوتر :
"الوطن..
معضلتي الكبرى ، ووجعي الأعمق ، وحلم كنت أشيّد فيه كلّ ليلةٍ قصراً من الأمل ، ولم أكن أعلم أنني أبني على الرملِ أحلاماً ، تتكسرُ مع أول موجةٍ صباحية بأحداثٍ يصوغها الآخرون ، وندفع ثمنها من دمائنا وحياتنا و..ترابنا "
وأخيرا , في محاولة لاعادة توازن الصورة , وضبط الحالة , تعود بنا الكاتبة بشكل طبيعي , إلى نقطة البداية , إلى صورة حقائب السفر , ثم تقوم بتمازج بين الحقائب والحالة النفسية والوجدانية , لتنهي هذه الهواجس والاحاسيس والمشاعر الانسانية , بعد منصف الليل :
"وأخيراً.. حقائب رحيلي تنادي ، وتزرع في أرض جفوني مراسيم البكاء ، على روحِ أنثى قد ودّعتها فراشات الفرحِ ، وصارت كالآخرين ، وردة تتنفس ، تحت أنقاض الوطن ، وتنفلق من بين مساماتها بذرة حبّ واحدةٍ تنادي باسم الوطن المسلوب ، فكيف تغفو عيون القلبِ وأرض روحها تئنّ ، وتصرخُ كل ليلةٍ من الألمِ ! "
وفي النهاية , يمكن القول , إن نص " حقائب الرحيل " , يرسم صورة معاناة ذاتية , تتداخل فيها الشخصانية والوطن , لاتنتهي عند شخصية الكاتبة فقط , بل تعدى النص ذلك ليرسم ملامح المرأة العراقية , بصورة عامة , في هذه المرحلة من التاريخ , بل أكاد أجزم , أن النص يعبّر عن ملايين النساء في عالمنا العربي , والنص يشكل لوحة أدبية راقية , تفيض بحرارة النبض , وصدق المشاعر , وبراعة التعبير .
د. محمد حسن السمان