قصة قصيرة:
الزيارة
عند أهلنا الصوفية ينقسم الناس قسمان قسم يسمي أهل الظاهر :- وهم الناس العاديون الذين يهتمون بظواهر الأشياء علي ببساطتها كشرب الماء والاكل والنوم والقسم الاخر ويسمي (اهل الباطن ومنهم الصوفية وهم الذين يغوصون في بواطن الامور ، ويسمونهم اهل الحظوة الذين احبهم الله فكان عينهم التى يبصرون بها وسمعهم الذي يسمون به وهم عبادة الصالحين ومنهم الخضر رضوان الله عليه الذي صحبه موسي عليه السلام. حكي احد المتصوفة وهو من اهل الباطن ان شيخاً إمتنع عن ذكر اسمه امعاناً في العمومية لاهل الحظوة، قال: كان الشيخ من العارفين اهل الباطن الذين قال الشاعر الفيتوري يصف حاله شعراً.
في حضرة من اهوي عصفت بي الاشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وبعضهم من الدارويش برقون مقاماً عالياً... كالجذب عند صغار الدراويش وكالتواصل بين الكبار.
قال بعض العارفين: هناك نوعان من لقاء الاحبة العارفين اصحاب الخطوة، الاولي ودية والغرض منها الاختبار للشيخ وحيرانه وحباً في الله اما الثانية فهي الاغارة علي الشيخ ولمعرفة مدي صحوته وانشغاله باوراده عن الدنيا فان وجدوه غافلاً عن الذكر عاقبوه عقاباً شديداً علي غفلته تلك حتى لا يغفل مرة اخري والاغارة اعنف واشد وطاة ولها عقوبة او عقوبات
قال الراوي (وهو من الحيران المريدين) قال:- زار مرِّة احد ساداتنا الشيوخ ومعه بعض حيرانه المقربين شيخاً اخر من كبار مشائخنا رضوان الله عنهم ولم يذكر الاسم تادباً – زيارة في الله .. وجاءوا في قافلة من الابل بلغت اربعين بعيراً محملة باجولة الذرة والدقيق وبعض الهدايا ، نزلوا ضيوفاً علي الشيخ المزار، وكعادة اهلنا في السودن نحري الذبائح للسادة الضيوف من الخراف وعاست النساء العصيدة والكسرة ، وجلس الضيوف بمجلس الشيخ المزار بادب جم ، حديثهم همساً وضحكهم إبتسام ، يتسامرون ريثما ينضج الطعام ، واخبروا الشيخ انهم في عجلة من امرهم ماضون ولكن واجب الطريق يحتم علي العابر ان يجالس كل من يمر به في الطري لان الواجب علي المار اذا مر بقبر ان يقرأ له الفاتحة ويدعو له بالاحسان والمغفرة ، ومن الاوجب ن يعطي الاحياء والشيوخ ما يليق بمقامهم ، صار الشيخ يهرول كل فترة باتجاه قسم النساء للتأكد من جهوزية الطعام وواجب الضيافة.
كان الحيران المادحين والضيوف الاكرمين سعداء فرحين بالزيارة كان شخصا يدغدغ جنوبهم فيسعدهم ويفرحهم كما كان الشيخ المزار اكثرهم سعادة ومرحاً بالضيوف يكاد يطير من الفرح فيري بن الضيوف وفي نفس الوقت يهب النار حتي ينضج الطعام ، وتارة وسط المادحين يمازج هذا ويشارك هذا في ضرب الطبول ورزم النوبات وكاد الدارويش المنتشون فرحاً ان يطيروا حتي ان بعضهم زغرد من النشوة كما تزغرد النساء في الاعراس.
عاد الشيخ وتوسط الجميع الذين اشعلوا ناراً كبيرة وسطهم (تقابة) وعلا صوت المديح يواقع حمي الطبول وايقاع النوبات والدفوف وغشت الجميع دفقات من المدد كانها سيل من تيار الكهرباء فاسعدت الجميع بلا استثناء ، وتسلل الشيخ ركضاً بين حلقة الذكر وقيزان الطعام الي حيث (ام الفقراء) وامهات الذاكرين يشرفن علي تجهيز الطعام ، وكصقر ينقض علي فريسة خطف قطعه من برش صغير جعل منها مهبه يهب بها النار فتطاير شررها واضاءت القيزان والمادحين بلون احمر برتغالي ومن فمه ايضا نفخ في النار مستحثاً لها الاضرام، وما هي الا ثوان معدودات حتى اتقدت النيران وصار لها هدير ، وارتفعت السنة اللهب حتي تجاوزت القدور من فوقها طولاً فهلل الشيخ وكبر ... الله ... الله هبي ...هبي،(وترجم) احد صغار الدارويش بكلمات غير مفهومة وارتفعت قدماه عن الارض ثم هوي وافقاً كانه فرخ طائر يتدرب علي الطيران.
وفي حلقة الذكر رزمت الطبول وتراصت الصفوف كانها سيقان القمح تمشطها الريح الراقصة ، وفرح الدراويش وامتد فرحهم فغمر كل شي من حولهم وغمرت السعادة كل الناس ، ... سعيدهم وشقيهم ، وارتفعت السنة اللهب فوق الجميع وهم يذكرون ... الله ... الله ... الله . نظر الضيوف بعضهم بععضاً وغمز بعضهم للاخرين فارتفع رزم الطبول واهتزت الارض تحت ايقاع النوبات ...... راقصة
...... سريعة ...... جذلة . تذكرت حديثاً ساخراً قاله ود حميد ذات يوم.
:- البهيمة الشقية هي التي تصادف المادحين ، ...... ياكلون لحمها ويمصوا نخاع العظام ثم يشدون جلدها طبلا لنوباتهم يضربونه طول الليل في اذكارهم ويظل جلدها يئن وهي ميتة.
حين تجاوز زمن نضوج الطعام الوقت المفترض لذلك توقف الحيران والمادحون عن ضرب الطبول فجأة ثم طلبوا الاذن بالانصراف ، تسلل الشيخ ركضاً لمكان الطعام . قالت ام الفقراء:- النار باردة . حزن الشيخ وغضب غضباً شديداً، ثم فجاة ودون سابق انذار قهقه بالضحك ، قال الراوي :- اختفي الشيخ بضع دقائق الي حيث مبرك الابل وجاء مهرولاً للحيران المادحين ، ...... اعفوا عننا يا اخواننا ...... اخرناكم ......معليش.
ربنا ما قاسم لينا اجركم. الفاتحة ...... ربنا يعدل بطريقكم ...... ويمد خطوتكم ...... ويوسع رزقكم ويحل عقدكم ...... ويهدينا واياكم طريق الرشاد ...... ويطوي لكم الارض ويقرب لكم البعيد ، ثم ضرب كفيه ببعضها حتي سمع لها صفيقاً، لبسوا نعلهم وحقبوا عصيهم واشياءهم الصغيرة ، وقام بعضهم بطي البروش كسيري الخاطر لكنهم حين ركبوا ابلهم وجدوها بدون روؤس او اعناق.
قال حواري الراوي : اثناء اختفاء الشيخ انه ذهب حيث تبرك الابل والنوق وحل رؤوسها باعناقها ثم اخفاها داخل برش قديم.
هرول المادحون والحيران الي حيث يقف الشيخ وقد فاضت عيناه بالدمع ، ثم وقعوا تحت قدميه يمترغون في التراب طالبين الصفح والمغفرة. ولم ينفضوا حتي عفا عنهم وطلب اطلاق سر النار ، وكما يزعم الراوي الحوار ان للنار سراً يعرفه الصوفيه ويمارسونه ان هم قراوا الاية : (يا نار كوني برداً وسلاماً)113 الف مرة . والان وقد كشف الشيخ سرهم وفضحهم فاخذ روؤس ابلهم فانهم اطلقوا سر النار واجابوا الشيخ لطلبه فانطلقت النار تهدر اشد من نار (الستلين) والعهدة علي الراوي .قال:- فنضجت كل الذبائح فاكل القوم حتي شبعوا. يضيف صار الاكل كما اخذوا منه ازاداد وامتلات القيران حتي اطفأ المرق لهب النار فاشعلوها مرات اخر. وان النوبات صارت ترزم حتي ان صوتها جاء باناس كثر لا يعرف احدا من اين جاءوا . بعضهم جاء راكبا لواري واخرون جاءوا راجلين من الصحراء كانهم نبع ماء متدفق وبعضهم جاءت بهم ايقاعات النوبة... حتى ان كل بروش المسيد امتلات بالناس كانها صلاة العيد اذ كان كل سكان المنطقة يحرصون علي صلاة العيد خلف الشيخ.
قال الراوي ايضاً:- ان الشيخ اصر عليهم ان يستمروا في الذكر دون توقف فاجابوه لطلبه اعتذاراً لخصطئهم الليل وراي الشيخ مقدار الجهد والرهق الذي اصاب الحيران طيلة ليلة البارحة جاءهم بالشاي والزلابية فشربوا مثني وثلاثاً، ثم اعطاهم الفاتحة متوسطاً حلقة الذكر مرة اخري داعياً لهم بـ (عفونا عنكم ، ... جزاكم الله وبارك الله فيكم ، ثم طلب منهم في صوت حزين دامع ... لا تنقطعوا عن زيارتنا... فبكي الحيران وبكي الشيخ لبكائهم.
وان نادي سراً علي اقرب حيرانه ودله علي رؤوس الابل فاعادها الي الجمال وهي باركة باصوات طقطقة خفيفة قال الراوي : انه تمت قرابة المائة زيجة لم يك يخطط لها من قبل !! وقال ان الشيخ سار معهم مودعاً مسافة تجاوزت اميال وكذلك بعض الحيران وبعد ان سار الشيخ معهم راجلاً طلبوا منه التوقف والعودة ففعل وان الحيران وضعوا الطبول علي ظهور الابل وظلوا يرزمونها وهم مبتعدين حتى ابتعلت الصحراء القافلة لكن صوت النوبات ظل يرزم في ضوء القمر الخافت واكتشفت بعد رحيلهم ان القمر ارتحل معهم .
وقال الراوي ان قرص القمر امتطي الناقة التالية خلف النوبات مباشرة وان صوت النوبات ما زال الي اليوم يدق في الصحراء في أي مكان خاصة في الليالي المقمرة !!!.
بقلم : فائز حسن العوض