بسم الله الرحمن الرحيم
شيطان الطمع .. قصة أجيال.. (قصة قصيرة)
**********
توقفت سيارة من نوع بوجو (405 ) قرب رجل في الخمسينات من عمره،كث اللحية، يفترش الأرض، ويتكئ بظهره على حائط مهترئ، لكنه سرعان ما اعتدل في جلسته، و تطلع بعينين زائغتين، إلى الشاب الأنيق،-صاحب السيارة- الذي تقدم ناحيته، فناوله ورقة نقدية من فئة 10 دراهم، ثم استدار راجعا على عجل، لكنه توقف فجأة، حينما سمع صوت المتسول من ورائه، يقول في لهجة آمرة، ممزوجة بنبرة حزينة:
- إنتظر ..
إستدار الشاب في استنكار، وقد تضاعفت دهشته أكثر،واتسعت عيناه عن آخرهما ،
والمتسول يعيد إليه عملة معدنية من فئة خمس دراهم، ويغمغم في امتنان:
ـ سبق وأن عاهدت نفسي أن لا آخذ درهما واحدا زائدا، فوق ما أحتاج لسد حاجياتي كل ليلة.
ورفع صوته بالدعاء له:
ـ بارك الله لك في مالك، وحفظك من آفات الطريق، وجعل بينك وبين الطمع جبالا من اليأس..
بهت الشاب من تصرف المتسول، ومن دعائه الغريب له ، وقد أربكه الموقف كله ..
فبقي على حاله مندهشا ، يراقب المتسول وهو يبتعد بخطوات منكسرة ،دون أن يتمكن من استفساره عن سر قناعته،حتى صك مسامعه صوت منبه سيارة من الخلف، وصاحبها يشير من وراء مقودها ساخطا متذمرا..
فانتبه من دهشته، وأسرع يشير معتذرا للشاب الغاضب،
ويركب سيارته، ويغلق الباب خلفه، وينطلق مبتعدا، وصورة المتسول لا تفارق مخيلته..
******************
في ساعة متأخرة من الليل دلف الشاب ـ صاحب السيارة ـ إلى منزله ، وصعد الدرج على ضوء نور هاتفه الخلوي، متجنبا المصباح الكهربائي،وعبر البهو متسللا إلى بيت النوم،
فاستلقى على فراشه، لكن نور الغرفة أضيئ فجأة، وسمع صوت زوجته تهمس له
في حنان:
ـ حمدا لله على سلامتك زوجي الحبيب. كنت أنتظرك أنا وابننا سعيد على مائدة العشاء، لكن النوم غلبه فحملته إلى هنا
فغفوت بدوري . خذ أنت قسطا من الراحة ،بينما أجلب لك الطعام..
صاح فيها الشاب متبرما وهو يخفي عينيه عن نور الغرفة:
ـ أطفئي النور. أنا متعب، أريد أن أنام قليلا..
لم تتفاجأ الزوجة من أسلوبه الخشن الخالي من الذوق، فقد اعتادت عليه، واكتفت بأن ألقت عليه نظرة مشفقة وأطفأت النور،وهي تهمس معتذرة:
ـ أمرك عزيزي حسن. أعتذر.. تصبح على خير..
كان حسن يعلم أن الطريقة التي بدأ يعامل بها زوجته مؤخرا قاسية جدا، وخشنة،
تحز في قلبها ،وتدميه ،رغم ما تظهر من جلد، ومن تفهم..
فهو منذ أن بدأ عمله يتشعب، لم يعد يجد وقتا يجالس فيه زوجته كسابق عهده، حينما كان مجرد تاجر بسيط، يملك متجرا صغيرا لبيع مواد التجميل والعطور و...
وحتى أقرب أصدقائه لاحظوا منه الجفاء، والعزلة ،ولم يعد ذالك الصاحب الحسن المعشر، الذي كان يناقشهم ويهتم لأمرهم..
وابنه ..
إبنه الوحيد ،وفلذة كبده، ومنى عينه ، هو الآخر ،ورغم ما أصبح يوفره له من وسائل الترفيه، و كل ما تشتهيه نفسه ، لم يسلم من جفائه وبعده ..
كان حرا، فأصبح الآن عبدا لعمله، ولطموحاته ،التي لا تكاد تقف عند حد..
كلما اتسعت ثروته، كلما ازدادت نفسه فقرا، وبعدا عن الأقرباء، بل وحتى بعدا عن الله الرزاق،
فهاهو ذا، ولأول مرة في حياته، ينام دون أداء صلاة العشاء، بعد أن جاءه الشيطان -في صفة مسن أبيض اللحية يحترف النفاق- ،ناصحا، مشفقا، يهمس له، أن لا ضير من تأخير صلاة العشاء للصبح ،بعد عناء يوم شاق..
بل وراح يزين له ماكانت نفسه اللوامة منذ قليل تنهاه عنه، حتى أيقظ في نفسه من جديد جين الطمع*، وتركه يسبح في أحلامه، وكأنه مقبل على منصب رئيس دولة..
أنا الآن في الطريق نحو الغنى الحقيقي..
ونحو الجاه..
وهذا القلق الذي يراودني سرعان ما سيزول حينما يوافق المصرف عن مدي بالقرض الذي طلبته، وأفتح به فروعا عديدة لمتجري ،وأكسب ثروة سريعة، فأنشئ بها مؤسسة خاصة،ويكون لي كما لكبار التجار، سيارات فخمة ،وسائق، وسكرتيرة عمل،و...
وفجأة قطع عليه أفكاره صوت منبه الساعة :
ـ الله اكبر.. الله اكبر..
إختطف هاتفه وألقى نظرة على ساعته،فتفاجأ حينما وجد أنها تشير للرابعة صباحا،
وبدا كما لو أنه لم يسمع صوت زوجته التي استيقظت للصلاة ،قائلة في خفوت:
ـ صباح الخير زوجي الغالي. أتمنى أنك نمت جيدا..
كاد يصرخ في وجهها، لكنه اكتفى بالإشاحة عنها ودثر وجهه بإزار أبيض،
واسترسل في أفكاره من جديد..
لكن بقلق هذه المرة..
فالتفكير في كسب الثروة، قد سرق منه حتى الساعات القليلة من النوم،
رغم أنه مازال تاجرا متوسط الحال والكسب، فكيف يا ترى سيكون حاله لو توسع في تجارته أكثر!!!
كان من الواضح أنه يعيش صراعا داخليا رهيبا بين نفسين:
واحدة تزين له عمله، وتأمره باتباع طريق الغنى السريع ،كي يضمن مستقبله،
ومستقبل عائلته،
فيتجنب بذلك نكبات الزمان، وتقلبات أحواله..
والثانية تدق ناقوس الخطر باستمرار ، تلومه على حاله ،وما هو مقبل عليه ،
وتدعوه للعودة إلى ما كان عليه ،والقناعة بـ....
وفجأة مر طيف ذلك المتسول الغريب الأطوار، عبر شريط ذاكرته المنهك بالأرقام والحسابات،
فهب واقفا وهتف في قوة:
ـ نعم .. ليس غيره.. عنده سأجد الجواب الشافي لكل ما يدور برأسي..
وخرج من البيت مسرعا،مثيرا دهشة الزوجة، وقد عقد العزم على أن يقف على سر ذلك المتسول القنوع..
مهما كانت العقبات..
والنتائج..
*****************
ـ يا بني.. إن الطمع فقر، يجعل صاحبه أفقر الناس..
فإن كان غنيا، ذو مال، لكنه فقير النفس، فلهفته على كسب آخر، تجعله غير قادر على التمتع بما يملك.
وقد ورد في الحديث، أن من كان له واديا من مال لابتغى لهما ثالثا..
فاقنع بما تملك، ولا تطمح في المزيد بغير وقت..
الطمع كسراب، يحسبه الظمئان ماء، فيسرع لطبله، حتى إذا جاءه، لم يجده شيئا، فينكص على عقبيه، نادما، متحسرا ..
ولعلك سمعت قول نبينا عليه الصلاة والسلام يقول:
(إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه،
وكان كالذي يأكل ولايشبع)*..
ـ يابني..
إذبح الطمع بسكين اليأس
فلأجل هذا المعنى كان يقال:
الطمع فقر،واليأس غنى،وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه..
ـ يابني.. لقد قالو أن العبيد ثلاثة:
عبد رق، وعبد شهوة، وعبد طمع..
فكن حرا، ولاتكن عبدا لمطامعك.
واعلم أن الطمع يمحق البركة، ويفني عمرك، ويصرفك عن حقيقة وجودك في هذه الدنيا الفانية..
ـ يابني.. أنت شاب متعلم ، ولاشك أنك وقفت على أخبار الطماعين ممن سبقونا، ولا يغرينك أنهم قدموا لنا حكايات
أشعب، أشهر طماع عرفه العرب بطريقة طريفة محببة للنفس، فالطمع قد أهلك من قبلنا،
ولازال يفعل..
فكم من غني أصبح فقيرا معدما ..
وكم من مضارب خانته أسهمه، فارتدت عليه، فأصابته بإعاقة مدى الحياة..
حتى البنوك الكبرى في عالمنا اليوم لم تسلم ، فهوت نحو مستنقع الموت والاحتضار بسبب طاعون الجشع..
ـ يابني.. إن قصتي تكاد تشابه قصتك..
كنت بدوري أملك متجرا ،فكونت بحمد الله ثروة لا بأس بها، وقد أكرمني الله عز وجل بزوجة طيبة، وابن وحيد، فعشت حياة سعيدة، طيبة ،راضيا بنصيبي في هذه الدنيا..
حتى بدأ شيطان الطمع يوسوس لي..
ويدعوني للغنى السريع، مزينا لي الطرق السريعة المؤدية إليه، فوافقته بعد إعراض طويل..
فأصبح ما كنت أتجنبه ،ولا أقربه، أسعى خلفه لاهثا، وأسلك طريقه مادام سيزيدني ذلك ثراء..
ويوما بعد يوم..
وشهرا بعد شهر..
بدأت مطامعي تزداد..
وثروتي تتكوم..
حتى جاءني شيطان الطمع الأكبر بنفسه، فأعمى بصيرتي، ووسوس لي..
فاشتريت بكل ما أملك أسهما في البورصة، وطلبت من المصرف تسهيلات توازي ما أملك،
وحينما ارتفعت أسعار أسهمي بالسوق، فبدل أن أبيع ،طالبت المصرف من جديد لأشتري أسهما جديدة.
وبالطبع ما كان المصرف ليرفض لي طلبي وهو يعلم أن حقه مضمون سلفا،وهكذا رحت كلما ارتفعت أسهمي في السوق أطالب بقرض جديد ،وقد أغواني شيطان الطمع بربح
وكسب أكبر، تماما كتاجر المخدرات الذي يهيئ لأكبر عملية تهريب، على أمل أن يستغني من ورائها ،ويتقاعد بعدها عن العمل، ويعيش ما تبقى من عمره كأي إنسان بسيط، لكن ما إن تنجح عمليته بسلام حتى يعود للتخطيط للأخرى أكبر حجما فتكون عاقبته مخزية في الدنيا قبل الآخرة..
وهكذا كان حالي، حتى...
توقف المتسول عن الكلام، ليلتقط أنفاسه ،ثم يلتفت للشاب حسن الذي كان ينصت إليه بكل اهتمام، ويواصل في مرارة:
ـ حتى نزل سوق البورصة فجأة..
وبدلا من أن أبيع ،على الأقل كي أغطي ديوني، وسوس لي شيطان الطمع من جديد، وطالبني بانتظار ارتفاع الأسهم .
وبدأت أنتظر،والأسهم تنخفض..
وتنخفض..
وتنخفض..
حتى باع المصرف عني غصبا حسب العقد الموقع الذي يربطني به والمخول له فيه بالبيع.
فأصبحت بين عشية وضحاها فقيرا، معدما،
ووحيدا..
أثارت عبارة (وحيدا)، انتباه الشاب فسأله في استغراب:
ـ و لم وحيدا وقد حدثتني من قبل عن عائلتك السعيدة؟!!!!..
ترقرقت الدموع في عيني المتسول، وكأن السؤال أيقض في قلبه ذكريات أليمة عن عائلته الصغيرة،
فتطلع ناحية الشاب ،مكتفيا بعبارة مقتضبة، تحمل الكثير من المرارة:
ـ وما العاقبة التي يمكن أن تتصورها لزوجة، كانت عفيفة، طاهرة، لا تقبل إلا الحلال!!!
وعاقبة ابن شابه أباه فصار على نهجه؟!!!
قال هذا وابتعد مسرعا يجر أذيال الخيبة، فاستوقفه الشاب هاتفا:
ـ لكنك لم تجمع حصتك الصباحية بعد!!..
وهم بإخراج ورقة نقدية، لولا أن أشار إليه المتسول بعلامة النفي ثم همس له:
ـ لا عليك بني، أنا صائم اليوم ،ما كان من عادتي وأنا ممسك أن أتسول صباحا، لكن طيفك زارني أمس في المنام
فعرفت أنك ستبحث عني، فانتظرتك..
قال هذا وانصرف مبتعدا..
وكانت هذه آخر مرة يرى فيها حسن وجه المتسول،
برغم محاولاته كل مساء، بعد انتهاء فترة عمله،بصحبة ابنه وزوجته الطيبة،
المرور بسيارته من نفس المكان، لكنه لم يقف له على أثر..
مطلقا..
وكأن المتسول كان هناك في ما مضى،
من أجل مهمة واحدة..
وهدف واحد..
إنقاذ حسن وعائلته من طاعون الطمع
الذي راح يستشري في مجتمعاتنا
ويتسع..
ويتسع..
***************
تمت بحمد الله وفضله
عبد الرحمان بتاريخ: 01/11/2008
* الحديث: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع.."
* جين الطمع: هناك دراسة طريفة لعلماء يابانيون أشاروا فيها إلى أن جين الطمع مسؤول عن السمنة، إذا أن المصاب بهذا الجين يستهلك مابين 120 و90 وحدة حرارية أكثر من غيره..