جذور ألم
" 2 "
حين غادرته ، أدركت كم الفوضى التي تركتها مفردة " ربما " في ذاته ، المفاجأة من التوقف كانت بقدر حزمها ، قد رسمت الذهول على قسماته بشكل مغاير لكل ما عرفت منه أثناء المراقبة ، حتى دخل في روعي ، أنني انتقلت من شخص إلى شخص آخر ، يختلف عمن كنت أحدث منذ لحظات ، بنفس القدر الذي أحدثته الصخرة من تغير لطبيعة المكان والزمان ، لكنني ظللت معلقا بين الوهم الذي اقتحمي ، وبين الجذور التي انتفضت من غبار اللحظات لتستوطن ذاتي من جديد ، بطريقة تدفع العقل للتجمد والتصخر ، للشلل المصحوب برغبة عارمة للانفلات من حالة اللحظة ، للغوص بلحظات القادم .
قال لي قبل أن أغادر ، حدثني عن نقاط الالتقاء والاختلاف بيني وبينك وبين رجل الكهف ، وحين غادرته ، لم أكن اعلم باني اسحب لحظات الزمن الغارق بين مسامات وجهه وجبهته ، ولم أكن أدرك ، بان ذاك الرجل المزروع فوق الصخرة ، والمتأمل للحظات الوجود ، بروية تكاد تكون قاتلة ، والملفع بصمت يزيده غموضا ورهبة ، يمكن أن تسقط مكوناته تلك وتتلاشى ، لتنصهر ، بعلامات الذهول والانشداه الغارقة ببئر تغص بالطحالب الملونة ، بفعل المد والجزر .
قلت له حين التقيته مرة ثانية : ماذا لو حدثتك عن الصخرة التي تخصني ، الصخرة التي شكلت جزءا كبيرا من تقلبات ذاتي ، ونوازع نفسي ، والتي رافقت سنوات طفولتي ، بدأب وصبر لا يماثلهما شيء في الوجود .
تلك الصخرة ، تقع على حافة سور مدرسة بنات اللاجئين في مخيم طول كرم ، وتحديدا ، على الزاوية الغربية للسور ، حيث تلتقي مع سوق الدواب ، يفصلها عن السهل الممتد إلى أخمص الجبال ، شارع يصل مدينة طول كرم بمدينة نابلس ، ومن هنا اخذ اسمه ، وحين تدلف بالعين عرض الشارع ، تلامس مجموعة من الدرجات المشققة بالأعشاب ، والملونة بطحالب وطفيليات ، تزيده روعة حين تبدو كلوحة ملحمية غارقة بتفاصيل تتجاوز قدرة العقل والفكر ، بعددها واندماجها وتلاحمها ، لتزرع بالذات ، مجموعة من مشاعر متآلفة متناسقة ، برغم ما فيها من تباين واختلاف .
هذه الحالة لوحدها ، تكاد تلامس الروح بطريقة غريبة ، فتحشوها بلحظة مفاجئة ، بنشوة غامرة ، تكاد تعصف بها لتنثرها هباء وسط الهباء ، لكن الروح تبقى عائمة وسط تلك النشوة ، تتقاذفها أمواج متناقضه مجهولة ، لكنها معروفة مألوفة ، قريبة بغموضها إلى لمسات الروح ، وملاصقة بتناقضها إلى معلوم المجهول ، صحيح أن تفسير ذلك يخضع ، لتحركات النفس والروح ، بطريقة الإحساس والشعور ، البعيدة عن اللمس ، لكنها تبقى رغم كل ذلك لغة يمكن للغيب المركز في ذات اللحظة ، وذات المكان ، وذاتي ، أن ينهلها ، كماء زلال متدفق في الحلق وسط سراب طارد الإنسان حتى كاد أن يوصله إلى لحظة الموت .
وحين تهبط الدرجات ، يبدو السهل المتتد إلى أقدام الجبال المطلة على البيارات الكثيفة ، وكأنها رايات من ألق يعانق الأفق ، فتداهمك الخضرة المتفجرة من كل جانب ، تتغلغل بأعماقك ، تتسرب في حنايا النفس ، كتسرب الماء من بين الأصابع المنفرجة ، تتناغم خضرة السهل مع خضرة الجبال المكتظة بالزيتون واللوز والدراق ، تشعر بخفة ظاهرة تكاد ترفع أقدام الجبال لتطفو فوق أثير من نور ، تنبز من التراب مجموعة من الديدان اللحمية ، تغسل نفسها بشعاع الشمس ، تتمطى وكأنها زودت ذاتها بروح جديدة ، تحدق فيها ، فتبدو وكأنها تحمل في اسطوانيتها أسرار وجود غريب ، له ملامح وتقاسيم ، وله زوايا تتوافق وتتأصل مع زوايا الكون ، عرفت عنها الكثير ، وعرفت عني الكثير ، سأعود في لحظة ما ، لأحدثك عنها ، عن قدرتها في التوحد مع القادم ، رغم ما يبدو عليها من ضآلة ، لكن دعنا نكمل بعض الخطوات القليلة ، نتقدم قليلا نحو السهل ، حتى أستطيع العودة للحديث عن علاقتي مع الصخرة ، وعن علاقة الزمان والمكان والناس والأشياء بتلك الصخرة .
على الجانب الأيمن ، وعلى بعد خطوات من الدرجات ، يقع خص " أبو باجة " ، وعلى اليسار يقع خص السروجي ، والى الأمام يقع خص آخر ، كلها من القصب ، على أرضها مجموعة من " الجنبيات " الصغيرة ، وبعض المساند المصنوعة من القش ، وفي زواية كل خص ، زير من الفخار ، وقلة من الفخار أيضا ، ترشحان الماء المغطى بظل ، فتبدو النقاط المتكونة فوق سطح الفخار ، حبيبات من ماس منثور ، تدعمه نسيمات شاردة من البيارات المزدحمة بروائح الليمون والبرتقال ، تشعر بظمأ مستبد ، قادم من رغبة عارمة للتواصل مع سر الماء الموجود في هذا المكان ، ظمأ ممزوج بظمأ المجهول الذي يدفعك للانصهار بطيبة " أبو باجة " وهو يغلي الشاي على حطب الأرض ، والعرق يتفصد من جسده ، بطريقة توحي بأسطورية الأشياء المتلاحمة بكل التفاصيل ، لتدفع تلك الطيبة إلى صوت يدعوك لتناول كوب من شاي ممزوج بأعشاب الجبل المقابل ، تشعر بنوع من فرحة غامرة حين تلامس كفك كف " أبو باجة " ، الذي يصدح بصوت له مذاق السهول والجبال ، مناديا على السروجي ، الغائص بين عيدان الملوخية والبامية ، وبين الباذنجان المتفتح زهره على استحياء .
تتقدم قليلا ، تلمح الحارس " أبو لافي " وهو يتسحب بين أشجار بيارة " أبو حمد الله " بطريقة تحمل طابع اللصوصية المستقاة من خبرة الحراسة ، وما هي سوى لحظات ، حتى ينبثق وهو يصرخ بصوت يخترق روعة الهدوء وصفاء الجبال " حَلق عليه حلق " ، تفلت الأقدام من الأطفال الذين يولوا هاربين ، وصوت " أبو لافي " يطاردهم ، يصطدمون بالأشجار ، بالأغصان ، والشمس من قبتها ترقبهم برفق وكأنها ترسم بين أشعتها خطوات أيامهم القادمة .
على بعد خطوات ، تنقلب الدنيا ، تتكوم في بؤر العين والقلب مشاهد وروائح الموت ، مجموعة من الحمير والبغال والخيول ، وبعض من البقر والماعز ، ملقى على حافة " وادي الزومر ، متششقة ، مفسخة ، منفوخة ، مبقورة ، مئات الملايين من الديدان في كل جثة ، تتحرك ، فتشعر بأنها تتقلب كبركان تغلي فوهته استعدادا للانفجار ، تتشابك روائح الجيف مع رائحة الموت المسيطر ، مع الحياة الخارجة من عين الموت على شكل دود ، مع روائح البيارات ، تنتابك رعشة قوية ، تكاد تخلخل كل ما فيك من توازن ، مشهد الموت الضاخ شكل الحياة في الدود ، روائح الجيف المغلفة لروائح الليمون والبرتقال ، مع خرير مياه الوادي الملطخة ببقايا البشر ، كل هذا يدفعك للوقوف والتساؤل ، كيف تتكون الأشياء ؟ وكيف تتداخل بتفاصيل صغيرة ، تحوي بنواتها تفاصيل اصغر ، وتحوي الأصغر تفاصيل أخرى تغوص بتفاصيل ، حتى يداهمك الشعور ، بان التفاصيل تتوالد ، كتوالد الإشعاع النووي ، ببداية ، ندعي أننا نعرفها ، رغم جهلنها المطلق بتفاصيل البداية ، وما قبل البداية ، ويستمر التوالد إلى ما لا نهاية .
دعنا نعود للصخرة من جديد ، وحتما سأعود لأكمل معك مسيرة الخطوات القادمة ، لان فيها ما يستحق أن يذكر ، وفيها من العلاقة التي تربطني بالأشياء ، ما يفوق علاقتي مع البشر ، رغم تواجد العنصر البشري بمكونات الأشياء واللحظات ، لكنه وجود مرهون بوجود الأشياء ذاتها ، فان ذهبت ، تلاشى وتبخر ، لكن الأشياء تبقى رغم تلاشي الإنسان وتبخره ، وهذا ما يثبت حاجتنا لها ، لوجودنا على تفاصيلها المترعة بالتفاصيل .
قلت لك ، إن لي وجودا يشابه وجودك ، حسنا ، فانا وأنت نشترك بان لكل منا صخرة ، تعودت عليه ، وتعود عليها ، صخرتك تحدثنا عنها ، ربما هناك ما تود قوله ، لكن الآن أود أن أخبرك عن تفاصيل علاقتي بالصخرة ، هي ملساء ، لكنها مبعجة قليلا ، غير نافرة كثيرا ، تكاد تتساوى مع جسد إنسان منحني ليلتقط شيئا عن سطح الأرض ، تمر من فوقها ماسورة متوسطة الحجم ، لتغذي بعض الحارات بالمياه ، وبسبب وقوع الماسورة على الزاوية الملتصقة بسور المدرسة ، فان ظلال الأشجار تغطيها بشكل دائم ، وهذا ما يمنح الصخرة برودة تتواءم مع النسمات الهابطة من حركة الأشجار ، تشرف على السهل ، تلامس من مكانها سقف الجبال ، لكن الأهم من كل هذا ، أنها تعرف ، وعلمتني أن اعرف ، أسرار اللحظات والهنيهات والناس والأشياء .
منها عرفت ، وبالتعود ، ببساطة وعفوية ، أكثر أهل المخيم والقرى ، مهنتهم ، خفايا نفوسهم ، عرقهم ، غضبهم ، فرحهم ، ولن أكون مبالغا إذا قلت ، باني عرفت أكثر مما يتسع عمري ووجودي في تلك السنوات .
سوق الدواب ، عرفني بأنواع الحمير والبغال والخيول ، وأنواع الخراف والماعز ، فهذا حمار بلدي ، يساوي سعر كذا ، وهذا حمار قبرصي ، يساوي سعر كذا ، وهذه غنمة شامية ، تفوق البلدية بالسعر للخصائص التي تميزها ، وهذا البغل ينفع للحرث ، أما ذاك فينفع للأوزان الثقيلة ، هذا الحمار يجب أن تحذر طباعه ، فهو يرفس بعنف ، أما ذاك فله طبع العبودية ، حتى الحمير ، لها طباع الثورة ، التمرد ، لذلك تراها تَحْرِنْ هنا ، تتجذر مكانها ، تتحمل لسعات السياط ، وهوي العصي ، وبلحظة منتقاة ، من داخل الوجع ، من داخل الإحساس بالظلم ، ترفس بقدميها ، فيتناثر الدم من الرأس كنافورة ، وتلتحم الحرارة مع الغضب ، لتجعل الدماء المنبثقة تفور وتتناثر وسط الساحة ، بعض الخيول يحذرك بائعها من تكدينها ، فهي من سلالة عريقة مدللة ، البعض الآخر يمكنك تكدينه ، الفحول لها قصة أخرى ، فهذا فَحْلٌ فَحْلْ ، أما الآخر فهو فحل عادي ، ولكن حاذر وقت التزاوج من الاقتراب من الاثنين ، فنطحة الفحل في تلك اللحظة علاجها إن كسرت العظم عسير .
هنا كانت تبدو الأشياء التي سترافق كل نبضة من نبضات قلبي ، الأشياء التي لا تسمى ، لا توصف ، بل تتكامل رغم اختلافها ، لتعطي لكل إحساس وشعور ، نوعا من البيان الواضح المجهول ، وترسم في كل ذات حقائق متباينة ، رغم توحد الأشياء بنواتها وجوهرها ، لكن الإنسان ، الذي لا يتقن فن التعامل مع الأشياء المتكاملة ، يتوزع إلى حالة مستعصية ، كل فرد فيها ، يحمل بصورة ما ، نوازع وأحاسيس ، تختلف وتضاد ، إلى درجة تقود إلى ذهول مسيطر ، فالصخرة وسوق الدواب ، هما شيء واحد ، لا يتغير ، لكن الإحساس بهما ، لا يلتقي بين فرد وفرد ، بل ربما لا يلتقي بنفس الذات ، بين لحظة وأخرى ، ليس بضرورة التجدد ، بل بضرورة العجز الذي يدفعنا للتقليل من حجم الأشياء ، لأنها فقط أعظم واكبر من قدراتنا .
إن المشهد في سوق الدواب اكبر مما تظن ، انظر إلى ذلك الاتجاه ، هذا الحمار الهائج ، الذي يدور بين الناس بغضب مستعر ، كيف أفسح مساحة من السوق لأقدامه التي ترفس الهواء ، بقوة وعنف ، لماذا أصيب بالغضب ، بالنزق إلى هذا الحد ، لا بد وان هناك شيئا ما أغضبه ، دفعه للثورة ، للتمرد ، الم اقل قبل لحظات بان الحمير يمكنها أن تتمرد ، وان تعلن هذا التمرد ، رغم الرسن ، رغم اللجام الذي يحاول السيطرة على ذهن الحمار من خلال الضغط على فمه أسنانه ، ورغم السياط والعصي ، وحين تتوقف ، وهذا ما يجب أن تدركه ، فإنها تتوقف فقط لأنها حققت ما تريد ، ونحن نربأ بغرورنا أن يعترف بذلك ، فنقول بان العصي والسياط قد حققت المعادلة الحقيقية ، وليس أسخف من هذا ، وكذبه ، إلا مفاجأتنا القادمة من ثورة جديدة من ذات الحمار ، وتستمر تلك الثورة ، حتى نخضع للمعادلة التي يريدها الحمار ، مع ظننا بأننا حققنا النصر على تلك الثورة التي ترسمها الحوافر القادرة على تفريق المجموعات واحتلال مساحة من السوق .
وهناك على الطرف الآخر ، مجموعة من التجار ، يساومون على بغل بليد ، حاول أن تركز على الجمل التي تعلمت التركيز عليها منذ طفولتي ، البائع يقسم أغلظ الأيمان بان البغل مطواع ، لا يعرف التمرد ولا يعرف الحرن ، يستطيع أن يحمل في صعود حاد أحمالا تفوق قدرة أي بغل مثله ، راقب وجه البائع ، ترى الجمل وهي تتحول إلى انفعالات تطفح على المحيا ، فالرجاء والتمني يبدوان على القسمات ويظهران في نبرات الصوت ، اندفاعه المحموم لإقناع المشتري بصفات البغل الرائعة ، لا تختلف مطلقا عن اندفاع القائد المنافح عن أحداث وخطط معركة فاصلة .
إلى اليسار والى اليمين ، في الوسط وفي الخلف ، حورات ، مساومات ، مشاعر وأحاسيس ، هذا يقسم أغلظ الإيمان ، وذاك ينفي ، هذا يستبسل بوصف الخصال الحميدة للحيوان ، وذاك يستبسل في اختراع العيوب ، يحمى الوطيس ، يصاب البائع بنوبة غضب تهز كيانه ، وبائع آخر تتهلل أساريره ، فقد نال من المساوم وأقنعه فحصد السعر الذي حدد ، مساوم آخر يعلن بان هذا الحصان ضامر ، يحتاج إلى تحذية ، الهبوط بالسعر ضرورة ، ينال من البائع ، الفرحة تكسي ملامحه والهزيمة تحيط بملامح البائع .
هذه التفاصيل ، بكل ما فيها من زخم ، كانت نقطة تحول في حياتي ، فمنها تعلمت معرفة الناس ، معرفة النفوس ، وما يدور فيها من اختلاطات وتنازعات ، رغم ما يبدو من اختلافها ، فإنها كانت تشكل مشهدا واحدا ، فيه من التناغم والتناسق ، ما يجعلني اقضي أياما طويلة وأنا اُشَرِحْ التفاصيل ، تفصيلا خلف تفصيل ، من اجل جمع المشهد كله بذاكرة لم تكن تعرف يومها بأنها ستستعيده إلى الناس على شكل رواية ، رواية لها ارتباط بالأشياء ، بالتفاصيل ، أكثر مما لها ارتباط بالإنسان ، الذي يدخل بمكوناتها كعابر بسيط ، له صلة بتفاصيل لم يكن يعلم بأنها تمر لتحط فوق الصخرة .
لكن المدهش بالأمر ، أنني تعلمت معنى الإحساس ، بالناس ، بالأشياء ، بالحيوان ، وملكت من الخبرة في الاندفاع نحو البساطة ، أكثر مما ملكت يوم كبرت والتقيت بالطبقة التي تتحزم بالجاه والمظهر والشكل .
الناس في سوق الدواب ، بسطاء إلى حد الطيبة ، بل إلى الحد الذي لا تعلم أين يقع فاصل الطيبة منهم ، بمعنى أوضح ، أنت لا تستطيع أن تجزم بان الطيبة قد تكونت بذواتهم بفعل الزمن أو الوراثة ، لكنك تستطيع أن تجزم ودون أدنى شك ، بأنهم هم مكونوا الطيبة ، وأنهم من عجنها بالأشياء والتفاصيل والنفس .
وهذا ما يستحق الشرح ، وأظن أن شرحه سيثير استهجان القارىء ، تماما كالشرح الذي قلته عن جذور التين ، وعن الصخرة التي خرجت من باطن الأرض ، يومها استحققت الشفقة من الناس ، لا لشيء ، سوى أنني كنت قادرا على مطاردة التفاصيل الصغيرة ، التي تتوالد منها تفاصيل أخرى ، فتنقسم كل تلك التفاصيل ، لتشكل رحما هائلا يمكنه أن يستخرج من كل قضية مجموعة من القضايا ، وأنا أدرك معنى الشفقة التي انبعثت من عيون الناس يومها ، أدركها بوضوح كامل ، فهي بمعناها الحقيقي عجز عن إدراك معنى الأشياء التي تظهر من الخفاء لتصبح واقعا حقيقيا لا يمكن فصلة عما هو حوله ، لكن الناس لا ترى بذلك شيئا مهما ، بل ولا ترى فيه شيئا يستحق التفكير أو التنبه له ، أما أنا ، فالصخرة كانت هما من هموم حياتي ، أدركت معنى خروجها من الأرض ، لتشكل واقعا يؤثر بالمكان والزمان ، ويرتبط بمخيلة الناس الذين رفضوا فكرة بروزها كمؤثر ، فهم بعد أيام قليلة استخدموا المفردات التي قلت يومها بان الواقع قد أوجدها رغما عنا ، قالوا خلف الصخرة التي أخرجتها الحفارة في ارض فلان ، وقالوا : بان الصخرة قد أصبحت عائقا قويا أمام الشجرة التي كان يجب أن تزرع مكانها تحديدا .
يومها أدركت معنى التنصل من الحدث بطريقة الانفلات من وحي التأثير ، فازددت قناعة بضرورة التعامل مع الأشياء ، التي تستطيع بصمتها وصبرها أن تضع الإنسان أمام حقيقة ذاته ، أمام تراجعه – عن وعي أو غير وعي – للاستسلام للحقائق المفروضة على ذاته ، علما ، بأنه يملك القدرة على التفاهم مع معطيات الأشياء ، ليستطيع حين يود التغيير أن يحدد ماهية التغيير وكيفيته ، زمنه ومكانه ، لكن بين الإنسان وبين الأشياء بعد طويل المسافة ، منذ بدء الخلق إلى يومنا هذا ، وسيستمر إلى ما لا نهاية ، إن لم يقف الإنسان ليخاطب مكونات الأشياء بنفس الطريقة التي بخاطب بها ذاته ، بل وبرهبة اكبر .
لكن دعني أعود لأشرح ما قلت انه يستحق الشرح ، وللقارىء حرية التصور ، وسأعود لأخبرك لماذا لا آبه بتصوره .
حين كان ينفض السوق ، كنت اندس بين الجموع المغادرة ، لأسمع تفاصيل حديثهم ، انتصاراتهم ، وهزائمهم ، لكني كنت أفاجأ بأشياء أخرى ، لم يكن عقلي قادرا بأي حال من الأحوال معرفتها أو استنباطها ، فانا غر بسيط ، ولد لا يملك من زاد التجربة إلا قليل القليل ، لذلك كان تأثير تلك الاكتشافات يذهلني ، يهزني ، يمور بأعماقي كموجة تحاول التشكل تحت سطح البحر ، لتنفجر غضبا يضرب الصخر والشاطىء ، لكنها كانت تفشل ، وتبقى في حالة محاولة التكون بكل ما تملك من عزم وقوة ، وتبقى الرغبة بالظهور كحدث حلما ممضا لما يعتورها من الم ووجع وانهيار .
احد الباعة كان يتحدث عن حزنه العارم على الحمار الذي قضى معه سنينا من الكد والتعب ، تحدث عن الزمن الذي اشتراه فيه وهو صغير ، وكيف اخذ يرعاه بحذر وصبر ، حتى بلغ الحمار أشده ، تلك العلاقة كانت تنمو بين الاثنين مع الأيام ، فالحمار كان يكون كما من الأحاسيس المرهفة الوفية ، التي ستتحول يوم نضوجه إلى خضوع تام من اجل تحقيق حلم صاحبه ، في الحرث والنقل ، في الزراعة والرزق ، بطريقة تدفع العقل للاستهجان ، وحين وصل إلى هذا الوصف ، انحدرت الدموع من عينيه ، استغرب الناس من الرجل ، بعضهم اتهمه بالجنون المفاجىء ، وبعضهم اتهمه بالهبل ، ولكن ، أنا وقفت والدموع تنهل من العينين كمطر لا يرحم .
يومها أحسست بعمق الضربة التي أصابت البائع ، وأصابت الحمار ، فشعرت بالنقمة ، بالغضب ، وأحسست بشفقة خرجت من ذاتي لتتبع الحمار والرجل في نفس الآن ، وحين عدت ، حدثت أترابي عن الحدث ، نظروا إلى بعضهم والبسمة تزم شفاههم ، كانوا يسخرون مني ، من طريقة عرضي للأمر ، وأنا أظن ، بان القارىء سيسخر مني بنفس القدر ، لكن الأمور لا تنجح معي ، فانا اعتدت السخرية من الناس ، لكني بنفس الوقت ، أستطيع أن اسخر من أشياء كثيرة يرى الناس فيها من الأهمية ما يوصلني إلى حد التقزز .
رجل آخر كان يحمل فرحة غامرة ، تغطي وجهه ، وفي بؤرتها أسى شديد ، هو فرح لأنه استطاع أن يبيع البغل بالسعر الذي حدد ، فهو يستطيع الآن أن يشتري لابنه الكتب التي طلبتها المدرسة ، واخذ يسترسل بوصف مشاعره وهو يصور ابنه وهو يفتح عيادته الطبية وسط البلد ، وفرحة أمه حين تبدأ بالزغردة يوم الافتتاح ، كان يتحدث بطريقة تجبرك على الوثوق من المستقبل الذي يرسمه ، لكنه بعد هنيهات ، هنيهات فقط ، وقف ليمسح العرق الهاطل على وجهة ، فانبجس الأسى بقوة ألغت الحلم السابق من تفاصيل الوجه حين سأل كيف سيحرث الأرض غدا من غير بغل ، وبهنيهات ، هنيهات فقط ، عادت الفرحة مكانها لتقتلع الأسى حين اخبره جاره بأنه يستطيع أن يستخدم بغله إلى أن يُيَسِرْ الله أمره .
المشهد لا يقف عند هذا الحد ، فانا لم أخبرك بالهرج الشديد المتداخل بين الناس في السوق ، ولم أحدثك عن الناس التي كانت تأتي للفرجة والمتعة فقط ، بربطات عنق ، وبدلات فخمة ، رائحتهم تفوح بالعطر ، ولم أخبرك عن الأطفال الذين كانوا يتلصصون من فوق سور المدرسة كي يتمتعوا بالمشهد ، حتى أنني لم اكتب عن صوت السيارات التي تقطع الأصوات بأبواقها ، وكذلك لم أحدثك عن الجمال ، التي عشت وأنا احمل رهبة تخصها دون غيرها من الحيوانات ، والاهم أنني لم أحدثك أبدا عن نكهة المشهد ورائحته .
للمشهد نكهة خاصة ، متميزة ، تماما كمشهد الصباح المتفجر في مدينة طول كرم ، ومشهد المساء الذي لا يشابهه مشهد ، في أي مكان بالدنيا ، طول كرم ، لها جلالها والقها ، لها لهاث القمر خلف بحرها المعزول عنها ، ولها اشتياق النور الموازي لعتمتها ، هي فوق الوصف ، تُعْجِزْ القلوب والعقول ، وتُحني قامة اللغة والمفردات ، خاصة ، عندما تنصهر مكوناتها بشارع العودة الفاصل بين حارات المخيم ، ليصلها بالخفق النابض بنواة الوجود .
تلك النكهة ، تأتي من التمازج ، من الاندماج ، من التوحد ، بين المكونات التي لا تعد ولا تحصى ، فرائحة الدواب ، الجمال والبغال والفحول ، رائحة الناس ، رائحة العرق ، روائح الأمنيات الخافقة بالبيع والشراء ، روائح الفرح والحزن والأسى ، تزحف كلها لتخلط بروائح البيارات الممتدة كسوار من الجنة حول المدينة ، ولتتمازج مع رائحة التراب المتنفس بسسب سقوط المياه فوقه ، برائحة الظل المحمولة على نسمات الأغصان المتحركة بفعل ريح ناعم ، تختلط كلها برائحة الموت الذي يلف أطراف وادي الزومر ، المحشو بروائح النعنع والبقدونس ، الممتصة روائح الصنوير والكرز والزيتون .
كل هذا يدخل في عمق المشهد ، في نواته ، يتغلغل بتفاصيله ، حتى تبدو الأمور كلها ، وكأنها خارجة من حلم يسبق الزمن ويتفوق عليه .
هناك كنت أنا دوما ، أحدق بالأشياء ، وأحاول ترتيبها ، رائحة اللوز تتناغم مع رائحة الشومر ، وهي أصلح ما تكون للغنم الشامي ، أما رائحة الصبار وشكله ، فله من الهيبة ما يجعله يشارك بتكوين الجمال ، الخرفيش لا تأكله الأغنام ، فهو كالصبار من نصيب الجمال أيضا ، هذا الرجل تناسبه فرحة طفل يوم العيد ، وذاك تناسبه فرحة عروس ليلة زفافها ، أما ذاك الزائر ، فلا يناسبه سوى رائحة الزنبق السام ، شجرة الجوافة شديدة التأثير بالجو ، رائحتها نفاذه ، لذلك فهي تناسب الرجل المزروع بالألم والضنك ، فبينهما علاقة الوضوح التي لا يمكن السيطرة عليها .
وحين كنت أعود لأمي وأحدثها بما يجول بفكري ، وخاصة يوم أجهشت ببكاء حارق لأني لم املك النقود لمنحها للرجل الذي بكى حزنا على فراق حماره ، شَهَقَتْ بقوة ، وقالت " إسْمْ الله عليك يَمًا " ، وبدأت تقرأ القرآن على رأسي ، وهي تخفي في ملامحها تحفز لأمر ما .
وحين عاد والدي من العمل ، أمسكت به وهي توشوش وشوشة يسمعها الجيران ، ابنك الله يعلم ماذا به ، غدا صباحا لا نريده أن يذهب للمدرسة ، سآخذه للشيخ لأعمل له حجابا يقيه الشيطان ، والدي وافق فورا ، أما أنا فقد توزعت بين فرحة الغياب عن المدرسة وبين الخوف من الشيخ الساحر ، لكن والدي انتشلني من كل ذلك ، حين أرساني بحضنه الرائع ، وهو يأكل لقمة ويطعمني لقمة .
في الصباح الباكر ، كنت أساق نحو الشيخ برغبة عارمة من أمي ، وتصريح مطلق من أبي ، الأولاد كانوا يتقاطرون من الأزقة نحو المدارس ، وأنا موزع بين فوز الغياب ورهبة الشيخ الساحر ، كنت أخاف بطبعي من عالم الخفاء الذي يصفه الكبار دوما بالمجهول الغامض ، فهو عالم محشو بمخلوقات غريبة ، لا ترى ولا تشاهد ، لا صوت لها ولا صفير ، لكنها تتمتع بقدرات خارقة ، تستطيع ان تلغي وجود الناس ، تمحقهم ، بكل يسر وسهولة ، وكانت صورة المشايخ ، الذين عرفت فيما بعد ، بان صلاتهم بالمشيخة جاءت فقط من تسمية الكبار لهم بهذا الاسم ، وعرفت أيضا ، بان صفتهم الحقيقية ، هي الشعوذة والكذب والتدليس ، وحين عرفت ذلك ، انهارت عوالم كاملة من ذاكرتي ، لتصبح نوعا من خيال متوقد ، تدفع إليه حاجة الناس البسطاء ، ليتشكل كمخرج لما يحملون من آلام وأوجاع .
وحين وصلنا ، رايته ، طويل القامة ، غزير اللحية ، يحمل سبحة طويلة ، خفت من تقاسيمه ، اقترب مني ، وبدأ يتمتم بأحرف متداخلة غير مفهومة ، وضع يده على راسي ، وانتفض ، انتفضت أمي بذات اللحظة ، تأملت وجهها ، كان كابيا ، شعرت بالشفقة الشديدة عليها ، لكنها عادت إلى طبيعتها حين منحها حجابا لتعلقه برقبتي طوال اليوم .
هنا تتداخل الأشياء كلها مرة أخرى ، فالصخرة كانت حاضرة في لحظة من لحظات الأحداث ، وجودي فوقها عن قصد وتعمد ، هو الذي دفعني لتعلم التأمل بطباع الناس والأشياء ، هي التي قادتني لملاحقة صاحب الحمار لأعرف مدى حزنه على صديق وفي ، تربى معه في مساحة من زمن مشترك بين أشياء كثيرة ، تداخلت فيها اللحظات مع الأمكنة والأشياء ، بصورة يومية ، بل بصورة لحظية ، أنبتت من حيث لا يدريان مجموعة من العوامل والأحداث المشتركة ، التي شكلت فيما بعد ، عاطفة قوية ، برزت مرة واحدة يوم فقدت الأواصر مع تلك المكونات كلها ، بسبب بيع الحمار ، وخروجه من المشهد الذي لم يكتمل بعد .
وبقدر حزني على الرجل ، حزنت على الحمار ، فهو وان لم يستطع أن يقرر أين سيبقى ، وكيف سيكمل مشوار حياته ، فانه بالغريزة قد قدم تضحية كبيرة لصاحبه ، برغم ما حل بعواطفه من انكسار ، ورغم ما أصاب مشاعره من انهيار ، وكنت بنفس الحجم احمل شفقة نحو الحمار تتساوى مع شفقتي على الرجل الذي أحس بعمق المأساة التي حلت به يوم غادره الحمار إلى غير عودة .
وحين أخبرت الناس بذلك سخروا مني ، قالوا : بان الحيوانات لا تعرف معنى الحزن والفراق ، ولا تعرف معنى الود والوفاء ، وحين قلت لهم بان هذا الكلام غير صحيح ، لان العالم كله تحدث عن وفاء الكلاب والخيول للبشر ، أكثر من وفاء البشر لها ، وصفت لحظتها بالجنون ، ثم تحول الوصف إلى الهبل ، واستقر أخيرا على صفة المعقد .
ربما يكون الوصف حاملا بعض الصحة في تصورهم ، أما أنا ، فقد كنت استرسل بتنمية قدراتي للتواصل مع الأشياء والأحداث ، بنفس القدر الذي كانت الأشياء والأحداث تفرض وجود البشر داخل رؤيتي ، وهذا ما مزج بين قدرتي على وصل الحدث والشيء بذات الإنسان ، ومعرفة تأثير ذاك الوصل على نضوج واكتمال فهمي للأشياء .
حسنا دعنا من هذا ، فلدينا الكثير لنكمله ، لدينا رحلة منتصف اليوم ، ورحلة الغروب ، بكل ما فيهما من تضاد وتناقض .
قال : لا ، عليك أن تعود للديدان اللحمية ، فأنت قلت بأنك ستحدثني عنها .
قلت : نعم ، فهي تستحق العودة .
مامون احمد مصطفى
فلسطين - مخيم طول كرم
النرويج - 26 - 11 - 2008