لساعات الرحيل حزن يدمي القلوب ، يحرق الأفئدة ويحيل الليل إلى نهار والنهار لا يدور لا يعلم إلى أين سيذهب ومتى الليل سيرحل كي يعود ، يطير النوم ويتغيّر المناخ ويتوه الوقت في الفضاء ، وتنعدم كل السبل أمام الحياة لتجلس تحت خط الاستواء تمامًا عاريًا مكشوفًا أمام نفسك وكل الكائنات من شدّة حرارة الموقف ولحظات الوداع ، فتأتي الدموع محمّلة بدفاتر الذكريات وأيام الشوق واللقاء ، مات فلان يرحمه الله كان اسمه فلان وكانت وكان وهذا هو حال الدنيا وحال الأنام .
لطالما رأيت الموت يمشي من أمامي ومن خلفي ، يأخذ منّا ما نحب ومن أحبّنا ، ويترك لنا علامات وآثار لكي نتعظ وننتبه إلى ما هو قادم ، و نظرًا لانشغالنا بمصاب الفقد غالبًا لا نعير أي انتباه لكل ذلك ؛ فننخرط في الحزن والدموع تنفجر كينابيع اخترقت الأرض بعد أنْ ضاقت عليها بما رحبت ، ننسى أنفسنا ونغرق في أحزاننا ونتخيل من مات للتو ونكاد لا نصدق أعيننا ، أهذا من كان قبل قليل يكلمنا وتشع البسمة من وجهه ؟ما به لا يحرك ساكنا تخاطبه فلا يرد عليك تهمس في أذنه فلا تسمع جوابا ، تنظر من حولك وفي كل الوجوه فترى حالهم لا يختلف عن حالك ، غير أنّك لست مصدق أنّهم يعانون مثلك ، فلكل حزن إحداثياته الخاصة وظروفه وتشكيلاته التي بُنيت على حسب ما شكلته الأيام والشهور والعقود من أحداث ، لكنك لا تقتنع أنّك مثلهم فحالة التعب المصحوبة بالذهول تأخذك بعيدًا وأنت تدور بين نفسك وعقلك عن منفذ يخرجك من فوضى الألم وثورة الوجع وانتفاضة الأنين عليك وأنتَ تخنقك العبارات من هول نار الزفير ولهيب الشهيق وصدرك ينتفخ وينقبض بشدّة فيخيّل إليك أنّك ستتمزق وتتناثر في أية لحظة ، فماذا لو كنت وحيدًا ومرّرت بذلك يا قلب يا إنسان ؟
الحزنُ مشروع والدموع لها حضورها الذي يخفّف بعض الألم ويطفئ شعلة اللهب في صدر كأنّه بركان يتفجّر تسمع فيه صوت العظام وهي تطقطق من خفقان القلب وانقباضاته التي تفوق قوة الزلزال . ولكنّ الموت حق وكلنا سنموت وستصبح أيامنا هذه ذكريات لها حضورها بقدر تأثيراتها على القلب والعقل ، نبدأ من الأمّ قلب الدنيا النابض إلى الأب عماد البيت والأسرة ، مرورًا بالأخت والأخ والزوج إلى الأبناء زينة الحياة الدنيا والأقارب والجيران ، لنصل إلى الحبيب ثمّ الصديق ، فلكل واحد منهم وجود خاص به وله ، وللقلب ميزانه وذاكرته التي لا تمحَ ، و نتذكّر كل ذلك في لحظات الفراق وما يعقبها ويا لقسوتها من لحظات !.
في حياتي مرّرت - كما هو حال الجميع – بأيام الموت وما رافقها من عذاب منها ما ذهب لحاله نتذكره على عجالة فنذكره بالرحمة ، ومنها ما بقيّ في القلب لا يغادره فهو فيه مقيم ، وحضوره وغيابه عن شبكية العين والمخيخ له طقوسه الخاصة وألمه الذاتي فلا يشعر به أحد ولا يقيّم حجم غيابه سوى أنت ، وقبل قليل أيقظتني أختي أم إبراهيم رحمها الله ، ورأيتها كأنّها أمامي ، لا أدري ماذا حدث لي ، ففي لحظة رأيت كل أيامي التي عشتها معها تمرّ أمامي ، أتذكّرها وأكاد ألمسها بيديّ ، ثمّ أعود إلى واقعي فأقول رحمها الله فقد ارتاحت من هذه الدنيا وهمومها ، هكذا نقول جميعًا ، وهكذا سنقول غدًا أو بعد غد أو بعد سنيين فالعلم عند الله تعالى متى سيكون الرحيل .
وكما للأهل حضور في القلب فللأصدقاء حضور كبير أيضا ، وصديق القلم لا ينسَ أبدًا ، فهو من شاركك أفراحك وأتراحك ، وهو من نصحك ووجهك وطيّب خاطرك بكلماته العذبة والجميلة ، وأمدّك بقوة معنوية كبيرة ، فلم تعد تخشى لحظات الضعف التي كانت تنتابك وأنت تكتب ، فتنطلق بثقة وعزم كبيرين ، صديق القلم له جمال مختلف ، وصديقك الآخر له حضور غير عادي أيضا والصداقة تبقى هي الصداقة بمفهومها النقي العذب .
وعن الحبيب والحب والرحيل ، لن أتكلم كثيرًا ، فلطالما سألت الله تعالى أنْ يكون رحيلي قبل رحيله ، غير أنّ لله حكمة بالغة في كل شيء ، فلم أعد أتمنى أي شيء من جهة الرحيل وسلمت الأمر لصاحب الأمر ، وقلت ذات يوم في نفسي إنا أحب كل أهلي و حبيبي وأصدقائي وهم أيضًا يحبونّني ولو تمنيت الموت قبلهم جميعًا ومتّ فعلًا فكيف سيكون حالهم ؟ وأنا الذي لا يريد أنْ يتألم لموتهم أتراهم لن يتألموا هم أيضا ؟ وكيف بحبيبي بشكل خاص لو رحلت أو رحل عني ؟ يا الله كم نحن ضعفاء ! وكم نحن قساة على أنفسنا ! أليست هذه الدنيا لو دامت لغيرنا ما اتصلت إلينا ؟ لذا تركت السؤال والأماني للغفور الرحيم ، وقلت إنّ خير ما أفعله لهم هو أنْ أكون نعم الابن للأم والأب وأن أحفظ حقوق الأخوة والصداقة وحقّ الحبيب بما يرضي الله تعالى ، وحسبي أنْ أراقب نفسي وأرجو النجاة لي ولمن أحب ، وأنْ أقرأ قبل النوم آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة لأنام على وعد بيوم جديد أو حياة أخرى نتوسم فيها الخير بحسن الظن بإلهٍ لا تعدل عنده الدنيا وما فيها جناح بعوضة ، وقد أمسك عنده تسعة وتسعين جزءً من الرحمة وهي للبشر جميعا ؛ فبأي حال أقبل أيّها الإنسان وضع أمام ناظريك أنّه سبحانه غنيّ عنك وعن عذابك ، فأقبل ولا تدبر والموت نهاية كل شيء والرحيل إلى الحياة الأخرى له وقت معلوم ينتظرنا ولا نعلمه .
أطال الله في عمركم جميعًا وأحسن ختامنا وثبتنا وإياكم على دينه في الدنيا والآخرة .