اخترت هذا القفص الكتابي بكامل حريتي واخترت أن أسور ساعدي بقيدها بكل جنون الكتابة التي كانت تطلق للرياح سيقان أحاسيس الحروف بينما كنت مغروسة في حيز الأفكار التي لا تغادرها حتى أمام إغراءات الوسن لأجفاني إنها زوبعة تنقلني تارة إلى تلك الدمى التي لي معها قصص ليس لها نهاية وشكلت جزءً من حياتي كما تتشكل الطين المبللة حسب خطوات المشاة , وتارة تنتقل بي السطور إلى بنات أفكاري التي لا تختلف عن بنات الجيران ورفقة الطفولة وخاصة صراعهن حول الدمى التي كانت بحوزتي وكن يعقدن لها اجتماعات ومؤتمرات وكنت أشم رائحة ثمة صراع لا يختلف عن صراع الدول الكبرى الاستعمارية حول مناطق لها إستراتيجية وممرات بحرية ومناطق تستحوذ على مصادر الطاقة ..
هناك صراع ما يسري في شرايين الخفاء تفتح عليها الباب يد الريح بكل فضول لتكشف لنا عما يبدأ صغيرًا وينتهي كبيرًا حتى يكبر على صاحبه ويطغى عليه ليخنقه في كل لحظة بحيث لا يسعفه الندم على اليوم الذي اخترع فيه هذا الابتكار , وكم يذكرني هذا بحالة بريطانيا التي كانت لا تغرب عنها الشمس تلك الجزيرة التي تضاءلت بالرغم من أن الشروق والغروب مازالا كما كانا , الجزيرة المطلة على بحر المانش ولم يخف النفق البحري الموصول بينها وبين جارتها فرنسا الحقد الدفين الأعمق الذي طال لغتيهما إضافة إلى كره الآخر للناطق بلغة الآخر وإن كان أجنبيا , الجزيرة التي غزرت أشواكها في أحداق الكون كلما جلس ملوكها على مائدة عشاء تضم جنرالات الغبن والقرصنة وتنظر إلى العالم والإنسانية من خلال لمعان الشوكة المغروزة في قطعة لحم تحتفل بطاولة دائرية ..
تلك الجزيرة التي انكمشت على ذاتها وتقلصت عضلاتها ولكن مازال الوجع يئن في مستعمراتها ولم يتغير الحقد بين الجيران الذين تركت بينهم حبلا شيطانيا , كلما يشده طرف ولا يرخيه الآخر عصي على البتر لينفث من فتيله حرائق الحدود ..
تلك الجزيرة التي ترهلت لورداتها وبقيت في أعناقهم ربطة عنق لا توح بشيء سوى إنه كان لوردا كآنية الفضة التي تعرض في الفترينات واعتلاها غبار لا يمثل أي حقبة مشرفة ..
وفجأة أمطرت السماء وأجهض القحط ملامح الصحراء , لتجد الدولة العظمى نفسها وهي تواري على عريها نصف ديمقراطية يعج مطبخها البرلماني بروائح بهارات الوافدين , وكأنها قصة الحيوان البرمائي إن فشل في تحقيق هذا يجرب النجاح في مكان آخر لأنه حتى لو تكرر الفشل سيضمن تعايشه مع تلك الأجواء..
هكذا كانت حكايتي البسيطة مع الدمى , وخاصة في القرية حيث معقل الأخير للإنسانية لأن أهل القرية يقتسمون كل من الألم والفرح , وكان الصراع لا ينتهي بين رفيقاتي في اللعب وكنت أحسمه دون أن أدري كلما عثرت على مقص و أقص فساتيني القديمة التي كانت تبدو جديدة لمجرد أن تتحول إلى قطع مفرقة كالدولة الواحدة المجزأة التي تختلف في قمة تماثلها , لأصنع من تلك القطع فستانًا لدميتي كي تتغير المعالم التي كانت مثارًا للصراع, كنت أتفنن في تنسيق ضفائرها من خمار قديم لأمي كما كنت أعبث في مكحلة أمي وزجاجة عطرها كلما غابت في زيارتها لجدتي وكم مرة ضبطت رائحة عطرها بين محتويات دميتي وعندما ارتسمت علامات الاستفهام على وجهها لمحت إشارة من أبي لها بأن لا تسألني شيئا عن الموضوع ربما كان يعجبه اهتمامي بالدمية وربما فهم مغزى من كل هذا وما يترتب عليه من تكوينات ذهنية وإدراكية سيكون لها دورا أكبر يحسم بين الإيجابيات والسلبيات وكنت تحت مجهره من خلف نظارة القراءة ..
و كم كان سهلاً أن أخفي من أمي وجه الدمية الذي تبعثر حول أهدابها نثار الكحل بينما عجزت عن إخفاء الرائحة وهذا يعود للعلاقة الوثيقة بين كيمياء الأشياء وفيزيائيتها وبيولوجية ذكاء الإنسان ...
أصبح شغلي الشاغل الذي جعل عجلة أفكاري تدور كالساقية هو حول "صراع "صديقاتي لفرض كل واحدة منها رأيها حول دميتي وهيئتها الجديدة في كل مرة ولكني أفقت ذات يوم من نومي وكأني لم أكن مستغرقة في النوم بل كنت أفكر طول الوقت لماذا هذا الصراع حول ما لا يخصهم ؟
وخاصة كل واحدة منهن لها دميتها لماذا الصراع حول دميتي ؟
هل هذا تجاهلاً لشخصيتي ؟
أم لأني واضحة في كل شيء وقلبي لا يعرف سوى المحبة ؟
أحسست ذلك اليوم بأن الإنسان الطيب غبي ومن يتظاهرون بالاهتمام به ثم يتضاحكون عليه في الخفاء و هم يعولون على ذكائهم المفترض في ظنهم إنهم يمتلكون قدرة فائقة في إخفاء دواخلهم ومن هنا تبدأ مسألة العبث في مصائر الآخرين بدءً بإبداء الرأي وانتهاء في حلق رأسه بموس صدئ ثقيل يفتقر إلى الحدة..
كما تقول جدتي من يمسح على رأسك بدون أذنك سيحلق رأسك بدون إذنك ومن ثم قد يعجزك عن الحركة ..
ولكن لم يكن ينتهي صراعهن حتى أنهيته في أحد الأيام.. قائلة : لماذا الصراع حول دميتي وكل واحدة معها دميتها وهنا الأهم رأيي وليس رأيكن .. هنا صمت الجميع..ليتني قلتها من زمان !
ربما كنت أظن بغبائي بأن اختلافهن حول مظهر دميتي دليل على الإعجاب ..ربما ..
ويا ليت أصحاب القرارات في الوطن العربي ينطقونها بعد أن طغى الكرى وعاث الصمت في الحناجر ..ليتهم قالوا كفى لكل تدخل أجنبي في مصائر شعوبها ..ليتها ..ثم كلمة وليحدث ما يحدث وإن حدث هل هذا سيغير خططهم الآتية لا محالة ..يا من على رقبتك السيف حتما ستضطر إلى تحريك رقبتك ..
تذكرت فورًا ما جاء ذات يوم على لسان أبي وهو يتحدث مع صديقه حول الصراعات التاريخية للدول الاستعمارية في منطقتنا عندما اقتسموها باتفاق زادت الفجوة والخلافات بينهم لأنه لم يرض أحد منهم بنصيبه وكان يريد أن يكون الصدارة وصاحب القرار الأوحد أضاعوا معالم الإنسانية في هذا الصراع الخائر ومازال خلفائهم يلتحقون بذلك الجسر المبتور ..