رأيتها ذات يوم تبكي عند إحدى الجامعات ، فيما كانت صديقتها تواسيها وتشتمه بأقبح العبارات ، وكان يصمّ أذنيه عن سماع العتاب ، و يرفض الحديث معها وكأنّها شيء من الأشياء ، ورأيت أخرى تبكي على قارعة الطريق ، علمت فيما بعد أنّها أحرقت نفسها من جور الزوج والحبيب ، مشاهدات فيها عبر و لعلّ فيها يكون الدواء ، وأخذ الحيطة والحذر من كل الذئاب .
***
ارحل كما تشاء ، فما عاد بقاؤك يسعدني ، ارحل كما تشاء لعلي أنام قليلًا وأريح جفوني ، ارحل كما تشاء ؛ ودعني أرتاح من عذاب السنيين وطول الانتظار على قارعة الطريق ، فوق أشواك مزقت قلبي وعقلي وحسن ظنّي ، ارحل وكن مطمئنًا مع أنّ العجب بات يشاركني نفس السؤال ، كيف يطمئن جسد بلا قلب ؟ أيها الراكض خلف الأوهام ، أيها الحامل لفيروسات الغدر ؛ اطمئن إن كان لك قلب فاطمئن ، فأنا لن أبكيك ، ولن أبكي نفسي ، نفسي وآه من نفسي ...
ارحل نعم ؛ ارحل ولا تخش شيئًا ، فأنا لا أملك سلاحًا سحريًا يعيدك إليّ ، وما كنت لأتمنى أنْ يكون لديّ ، فارحل ، و لا تنظر إلى الوراء ؛ فأنا أضعف من أنْ أؤذيك ، وحتى لو استطعت فلن أرديك ، فمثلك يُترك للأيام لينفق فلا يقتل .
لو استطيع ، فقط لو أستطيع أنْ أصالح عقلي على قلبي ، والاعتذار من تجاهلي لحدسي ، فأنا خائفة حدّ الموت من حمقي .
أستحقّ كل ذلك وأكثر ، وأنا أراك تمشي من هنا ؛ من أمامي وكأنك لا تراني ، كم مرّة تنوي ذبحي ؟ ألم يشبع مني غدرك ونفاقك ؟ حتى الحجر بات ينتحب عليّ ومن أجلي ، أتساءل ويتساءل معي ترى كيف حصل كل ذلك ؟ بالأمس فقط كانت تبدو لي كملاك نشب على هذه الأرض بطريق الصدفة ، يندر أنْ تجد مثله على ظهر هذا الكوكب وفي هذا الوقت تمامًا من فصل الجفاف ، كنت أراك آتٍ من بعيد ، فينخلع قلبي من مكانه ويتراقص طربا ، كنت أحبك مثل كل شيء طاهر يُحبُّ ولا يؤكل ، فإذا بك تأكل قلبي ؛ تأكله كطائر نورس سقط فجأة – مثل قلبي الآن – كان مسافرًا في رحلته حالمًا بأمل اللقاء ، مارًا تحت سماء الأحبة ، أتأكله ؟ أتأكله أم تضعه في جوف قلبك وتحنّطه وتحجر عليه من آفات هذا الزمان ، أتأكل حمامة حملت بين أصبعيها رسالة مغمسة بشوق و دمع أمك أو أختك و من تحب ومن سكن في حنايا القلب ، أتراك تمسك رسالتها بيدٍ ؛ وبيدك الأخرى تحمل سكينًا لتضعها فوق قلب ما زال يلهث من عناء السفر الطويل ؛ حاملاً قلبه بين يديه ليعطيك منه ما يرضيك ، من تراه يفعل ذلك يا قلب ؟ ها قد أصبحت يتيمًا مرة أخرى ، كم مرة تيتم هذا الجرح ، كم مرة أصابك الغدر وسوء الظن أيها الحب ، أيا طائر البجع ما كنت لألومك وأنت تحفر قبرك بيديك ، ما كنت لألومك وأنت ترقص ألمًا بعد أنْ أعيتك الحيلة في فهم طلاسم وأحاجي زمن الضباب هذا، ما كنت لألومك وأنت ترقص ألما ، ترقص رقصتك الأخيرة .
يا ليّت أستطيع أنْ أفعل مثلك ؛ لكنّني لا أستطيع ، إليك ربي أشكو همّي ، والعفو منك مولاي لا أستطيع ، لا أستطيع أنْ أكون كطائر بجع ، فلك عندي ما ليس لي ، ليّ الحساب والعقاب ، ومنك العفو والثواب ، فاغفر لقلب مجنون تعلق بالسراب ، ما زال ينزف من ألم الفراق ، أحتاج إليك ربي لأعود إلى نفسي ، مولاي إلهي ، دع الصبر يعودُ مريضًا ، تاه في زحمة الفوضى والأوهام ، و سقط صريعًا بسيف الغدر واللئام ، ولبابك المفتوح أرتجي الصبر الجميل ، وأطلب الصفح لقلب ما زال يأمل بغدٍ يمحو ما أفسده عطار تنكر بثوب حمل وديع .
ارحل ؛ ما عدت أرجو لقاءك ، أرحل فصبري على الأحزان يفوق خداعك ، ارحل أيها العابث بنفسه ، ارحل ولسوف تحصد يومًا ما كنت تفعل .