حيفا و الشمس
أتراها تعرفني ؟
أم تراني قد نسيت؟
هو انسجام الصوت والصورة، وهو جذور غابة وبحيرة ماء، تداخل النقش بالنفس، وازدحام اللون في ذاكرة ما كان، حيفا وحي النصارى ، أسرار اجزم وابن النبهان، عشق الوادي وظلال جبل، تاريخ من الزخارف تروي عطش من ماتوا ، وأسماء من عشقوا أو صلبوا
أتراها تحبني؟
أم تراني أصبت بالجنون؟
رق وناي، عود وقانون، صوت من الزمن البعيد ، من شام وأندلس ، من فلسطين يحكي عشق محمود درويش وخرافة الشاطر حسن، والكل مختزل في وتر ومقام حمام، حيفا لونها الفضة والأخضر الغامق... والجبل الذي يقبله القمر، هو فيروزة مترامية الأطراف. يخرج الضباب من المياه، مضخما المنظر، أشجار السرو مستيقظة ، وتملئ الجو بخورا وهي تتمايل، ويحول الهواء حيفا إلى يرغول ، وتصلح طرقاتها المستوية قصبات له ،لحي النصارى أصداء مبهمة عاطفية، وهو ملفوف في بهارج لطيفة لضوء مظلم. يبدو أن بيوته الحزينة والحالمة التي يدفعها الضباب، تريد أن تروي لنا شيئا، عن العظمة والكبرياء ، و الكرمل فولاذ وغبار رمادي، لا يسمع فيه شيء ،إلا ويرجع صداه الصمت، ويئن النهر الذهبي ، عندما يضيع في النفق البليد ، تركض حدائق البهاء ، لتقترن بخطيبها نهر المقطع.
فوق القباب الرخامية و الحديقة الحمراء، يرتعش الهواء، للغابات أصوات معدنية ، وكمانات صغيرة ، تبكي جامع الاستقلال وقبر البهاء وساحة الحناتير، تبكي الأديرة دموعا من حديد وعفة .
أتراها كرهتني؟
أم تراني أصبت بالتعقل؟
تبدو جبال الجليل قريبة ، شبيهة بجناحي ملاك يحط ، شفافيات بلورية ، تظهر كل شيء في بهائه الكامد، تحمل الأراضي الظليلة ليلا في خيوطها الوردية، تتخلى حيفا عن حجابها بكسل ، مظهرة قببها وأبراجها التي ينيرها ضوء ساقط خلف البحر
تطل البيوت ، بوجوهها ذات العيون الفارغة، من بين الخضرة ، وترقص الأعشاب وشقائق النعمان ، وأغصان البيادر، برشاقة على نغم النسمة الشمسية ، هنا تربض اجزم.
ترتفع الظلال وتتلاشى هزيلة، بينما يسمع في الأجواء صرير باب الشيخ، ومزامير من قصب، كأنها هديل حمام.
هناك ضباب متردد في المدى، والخروب محفوف بالحور، وأحيانا يسمع – في ثنايا البرودة الصباحية – ثغاء بعيد بنغمة (فا ).
عبر وادي النحل و الدرب الأخضر الغامق، تطير الحمامات، شديدة البياض وسوداوات، لتحط فوق الصنوبر، أو فوق مرتفعات من أزهار صفراء.
ما تزال المآذن غافية ، وحدها مآذننا تدعوا للصلاة ، أذان يحوم ولا يحط، فوق شفا عمر، عين غزال ، الفريديس، الطيرة، الطنطورة، جبع، عين حوض، قيسارية، أم الدرج.......
هنا العوسج ، الزعتر، المرمية، ينحني حتى الماء ليقبل الشمس ، عندما تنظر الشمس إلى نفسها في المياه ، ليقول أن لي جذورا لا تزال هنا وأيد رعتني لا تزال هناك
صباح حيفا، تبدو الشمس بلا بريق تقريبا، وفي لحظة، تنهض الظلال وترحل، تصطبغ حيفا بأرجوان باهت، تتحول الجبال إلى ذهب كثيف، وتكتسب الأشجار بريق مهرجان.
أتراها ترضاني؟
أم تراني ما كنت هناك وما كان حبيب؟
يتحول هدوء اللون الأزرق الحائر للبحر، واصفراره، إلى ضياء زاه، وتصبح القباب العتيقة لمسجد الاستقلال شهبا من نور احمر، وتخرج البيوت بعشقها، وتعود البساتين خضراء وبراقة كشفاه عروس.
هناك لا تزال الذكريات الفلسطينية في كل الجهات، هناك روائح لشمس قوية، لرطوبة، لشمع، لبخور، لزهر العسل، عظيمة، غريبة، متدثرة بالأصوات المعتمة، تعب مشمس وظليل، تجديف ابدي، وصلاة مستمرة
زرع فلسطيني في حقول الشمس، وحصاد كرملي في بيادر الضوء
هنا حيفا وهنا شمس وضوء