المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد عيسى
طلقة دينا نبيل
طلقة موجعة تسددها دينا نبيل ، تلك القاصة البارعة ، طلقة محكمة تصيبنا فتذهلنا ، توترنا ، تضعنا أمام المرآة ، نستذكر كل غلطة ندمنا عليها ، كل جريمة تمنينا لو لم نفعلها ، كل فعلٍ كان وقعه كالولادة ، فعل يترتب عليه عواقب وخيمة ، لا يمكن لنا أن نتراجع عنها ، وكم هي الأخطاء كثيرة ، وكم يكون مؤلماً حين يكون للخطأ تبعات ، لا يتركنا لضميرنا وحسب ، بل يكون ممزقاً في ذاته ، قاسياً في تبعاته ، عنيفاً في ردات فعله
تلك هي القصة القصيرة
وكما عرفها ادريس ، هي كالطلقة ، كفرقعة اصبعي السبابة والابهام ، فنحدث الفرقعة الشهيرة ، تدوي في المكان ، بغتةً ، دون سابق انذار
درس في القصة القصيرة ، يصلح لأن يكون أنموذجاً لها ، وأن نتعلم منه أساليبا متفردة ، نصنع من القصة القصيرة رصاصة ، نصيب بها الهدف .
طلقة :
العنوان المدهش ، مبهماً منكّراً ، ليحقق الشرط الأساس في العنوان ، تحقيق الدهشة واثارة التساؤل ، يعبر عن القصة ولا يفضحها .
وماء يسيل .. من بين رجليها يبلل المقعد ، في الأرضية بركة تغمرُ قدميها
ومقدمة تسبق بداية النص ، كأنها قفزة استثنائية ، الى الحدث الأهم ، لحظة الذروة قبل أن تبدأ القصة حتى .
ماء يسيل ، بين رجليها ، ليبلل المقعد ، وتساؤل منذ السطر الأول ، من هي ، وأي مقعد هذا ؟ ومتى وأين ؟
فنقفز عبر السطور ، الى مقدمة أخرى ..
ودماء تنفجر .. بقعة بنفسجية تعلو فستانها الأزرق ، لا تفرق كثيرًا عن لون شفتيها
اذاً ، فهي الولادة ، بقعة بنفسجية ، وفستان أزرق ، ولون شفتين يشبههما ، شاحبة صاحبتهما ، وبداية البداية تزداد غموضاً ، تصحب معها الكثير من التساؤل ، أسئلة تجيب عنها فيما بعد ..
لم يرعبني منظرها هكذا .. فقد تلقيت الصدمة كاملة أول ما أبصرتها !
فتاة وحيدة في الشارع ، وفي مثل هذا الوقت ، وفي مثل هذه الحال ، ظروف تحقق ذهول من يراها ، الصدمة كاملة كما تصفها الكاتبة ، هزيلة وحيدة في ليلة عاصفة كئيبة ، وفوق مقعد خشبي قديم ، وفي مكان لا يجدر بها التواجد فيه ..
فتاة يتكور بطنها أمامها ، ليزيد من حالة الدهشة ، للقارئ ، والراوي على حد سواء ...!
" لا أريد أن ألد ! .. ليتني أحبسه في ( عنقي )، تنحشر رأسه بداخلي فيختنق .. قبل أن أسمع صراخه .. قبل أن أراه .. قبل أن أشتم جلده الوردي ، عندما للدنيا أطلقه ! "
....
تبدأ الدهشة تزداد فجأة ، لكنها أيضاً تفسر نفسها رويداً رويداً ..
أي مبرر يجعل امرأة لا تريد احساس الأمومة ، لا تريد لابنها أن يرى النور ، لا تريد له أن يخرج
بل وتتمنى أن يختنق ، أن يموت ، أن ينحشر داخلها فلا يبدو رأسه من بين ساقيها ، مبررٌ نبدأ في فهمه تدريجياً ..
البداية قوية ، عنيفة ، بداية تحقق لنا كل ما تعلمناه عن القص ، فالبداية الناجحة تخلق قصة ناجحة ، حسب بو وحقي وغيرهم كثر من أعمدة القص في العالم ، هنا نكتشف مع دينا نبيل عدة بدايات ، متفاوتة في المرحلة الزمنية ، متقاطعة مع الحدث الرئيسي ، كأنها قفزة زمكانية الى الوسط ، الى الذروة ، وبؤرة الأحداث ، مما يجعل المتلقي في حالة مثالية من الانتظار والترقب .
تأبي .. يجذبها بكلتا يديه .. تتشبث بالمقعد وتصيح في وجهه .." دعني أموت هنا ! " .. يحاول إخراجها من السيارة وهي تسحب نفسها إلى الداخل
القصة كلها كانت عبر أسلوب المتكلم \ الراوي الداخلي \ الراوي النفسي
هذا يقودنا الى استباق التحليل والتحدث عن أسلوب السرد ، هنا وعبر محطات القصة كلها ، ما عدا المحطة التي اقتبستها كانت دينا تتحدث بلغة المتحدث وأسلوبه ، هذا راوي يسرد لنا الحدث ، راوٍ هو البطل الثاني في القصة ، والقصة كلها نراها عبر عينيه هو ، واستخدام هذا الأسلوب كان مناسباً لجو القصة النفسي ولخلق حالة التشويق ، ومشاركتنا تساؤلات ودهشة الراوي مرحلياً حسب انفعالاته .
لكن المقطع المقتبس حمل تغيراً في الأسلوب ، فصار هنا بأسلوب الراوي العليم \ الراوي الخارجي \ الموضوعي \ المسقط الثالث ، وكما يصفون هذا الأسلوب بمحرك العرائس ، فالكاتب هنا يضع لمسته وأسلوبه بطريقة ذكية ، دون أن يبدو تدخله ظاهراً للعيان ، يبدو محايداً ويترك الحكم للقارئ ..
غير أن وجود هذا المقطع الوحيد بهذا الأسلوب ، يجعلني أشك أن هذا ليس تبدل في الأساليب تعمدته دينا ، وربما كان نتيجة سهوٍ ، فان لم يكن كذلك ، فان استخدام أسلوبين كان –حسب رأيي – يجب أن يكون بالتتابع ، والتنقل بين المشاهد عبر تغيير الأسلوب ، لا أن يتم حشر هذه الفقرة الوحيدة بهذا الأسلوب مخالفة جو القصة كله ..
تحاول الفرار .. يلقون بأنفسهم عليها يثبتونها في الأرض كمجرم رهن الاعتقال .. يتكالبون عليها .. على الذبيحة ! .. كل منهم يتناول طرفاً .. وذاك أسفلها يطالبها أن تفتح رجليها ..!
الراوي هنا تماهى تماماً مع الحالة النفسية للمرأة ، كأنه صار يرى بعينيها ويشعر بها ويسمع بأذنيها ، كأنه صار هي .. لهذا رآهم كما رأتهم ، يتكالبون عليها ، كلمة لا يجوز اطلاقها على أطباء أقصى غابتهم انقاذ المريض ، ووصفهم كأنهم جزارين كل منهم يتناول طرفاً من الذبيحة ، وصفٌ غير مبرر ، الا من زاوية الحالة النفسية للمرأة ، ووصول حالة الاشفاق من الراوي حداً جعله يشعر بها ، ويتألم مثلها ، ويعاني كما تعاني ، قد نقول أخفقت الكاتبة هنا أو كانت عبقرية في تلك اللقطة ، نظرة تختلف باختلاف القراءات ووجهات النظر ، ولا يمكننا أن نطالب الكاتبة بالتبرير ، لكننا مطالبون نحن بالقراءة والاستمتاع حسب رؤيتنا وحسب .
يلفّون قطعة لحم حمراء في منشفة كبيرة يأخذونها بعيداً.. تزعق على أمها .. أمها التي غابت عيناها في ضوء الكشّاف المسلط عليها .. حتى .. ألقيت الملاءة على وجهها بلا اكتراث
الحدث الأهم في القصة ..
المرأة تموت ، القطعة الحمراء ( الطفل ) يلف بالمنشفة ، ليصبح بين يدي الراوي في المقطع التالي ، دراما حزينة تجرنا لها الكاتبة ، حالة سوداوية كان لها مبرراتها أدبياً وربما لم تكن ذات المبررات الطبية ، هل الرفض والرغبة في الموت كافيان لنيل الموت ؟
ربما ، فكل شيء جائز ، في الأدب ، وفي المنهل الأساس للأدب .. الحياة !
والآن أراه .. أسودَ معدنيّاً .. فاتحاً فاه في وجهي بلا صوت .. أنتظر مِن فِيه طلقة تخرجني من عالمي ..
فينتظرني أن أضغط على زناده لينفجر في وجهي ! .. كانفراجة " أنت ابن حـــرااا ..! " من بين شفتين عابثتين .. تعيدني في كل مرة إلى حكايتي ذاتها ..
لم أكن مع الراوي هذه المرة ، لم أعرف كيف يراه هكذا ، الطفل البريء ، بذنب لم يرتكبه ، وجرم لم يشارك فيه ، وخطيئة لم يكن له فيها أي يد ، هذا ملاك بريء مهما كان نسبه ، ولم أعرف كيف يتحول الى اللون الأسود ،
ولم نكن بحاجة الى الصرخة المجتزأة : أنت ابن حرااا ... لكي نعرف
فقد عرفنا منذ البداية ، لكنها كانت صرخة كافية لنستيقظ من استنتاجاتنا على وقع الحقيقة التي توقعناها ولم نتمناها .. هو ابن غلطة واحدة ، لحظة نشوة ، ساعة متعة ، جاء هو نتيجتها وماتت والدته ، وكان مصير والده غامضاً كغموض البداية ..
أما ما بعد ذلك / والتي بطلتها في كل مرة ..
تلك التي ألعنُها كل يوم!
فقد كانت عبئاً على القفلة ، وربما لو كانت النهاية عند اللحظة التي يسقط فيها الطفل بين ذراعيه ، ليخرج من المستشفى يحتضنه ، لكان أفضل ، وتلك آراء تختلف باختلاف القراءات
غير أن القصة نجحت وبامتياز ، في أن تسرق كل تفكيرنا دفعة واحدة ، وأن تسيطر على انفعالاتنا وتقودنا حيث أرادت ، الى ذات المرآة التي تحدثت عنها ، لنتأمل أنفسنا ، ونفكر في العواقب ، ولأول مرة ، قبل ارتكاب الفعل بكثير ..
أحييك أديبتنا القديرة ، فقد أجدت ووفقت ، وقلمك الواعد يحقق الأفضل كل مرة
كل الود وأسمى آيات التقدير .
للتثبيت استحقاقاً
أستاذي القدير
والقاص المبدع بحق .. أ / أحمد عيسى ..
كنت أنتظر مروركم بقصتي المتواضعة وتعقيبكم عليها من أجل تقييم خطاي .. فأتحفتني بهذه القراءة الرائعة
قراءتك النقدية موفقة للغاية أ / أحمد القدير وقد دخلت بها في خبايا النص
ورغم أنني ككاتبة للنص فأرى وسأظل أرى أنه ليس من حقي أن أتدخل في رؤية الناقد لأن النص قد انفصل عني بمجرد نشره ..
ولكن سأقرأ وأستمتع اكثر بما توصلتم إليه والذي في أغلب الأحيان يتعدى ويفوق مقصدي .. فتكون بذلك إثراءً لما كتبت ..
لكن بالنسبة لبعض النقاط التي قد أثرتها أ / أحمد .. فأود لو أتناقش معكم فيها وتصححوا لي إن كنت قد جانبت الصواب ..
** مسألة الراوي العليم : نعم هناك فقرة واحدة فقط .. لكن ربما قد احتجت إلى هذا النوع من الرواية في هذا الجزء بالتحديد لأنني انتقلت إلى داخل نفسية المرأة .. وكيف يمكن للسائق التعرف على خبايا نفسها هنا ؟ .. فرأيت إدخال صوت الراوي العليم هنا
** وصف الأطباء بوصف ليس فيه رحمة من قبل السائق .. ربما لأنني أردت أن أنقل مشاعر البطلة إلى السائق ( راوينا الأساسي ) وهم بالطبع ليس فيهم رحمة بالنسبة للمرأة لأنهم من يسهمون في إخراج جريمتها إلى الحياة ..
** اما بالنسبة لرؤية السائق للطفل البرئ بهذا الشكل في نهاية النص .. ربما تنبؤاً بما سيصير إليه الطفل .. وربما في تلك اللحظة قد تغيرت طبيعة الطفل وصار شيئا آخر ؟
في كل الأحوال .. قد أسعدتني كلماتك وتشجيعك وإطرائك على النص وتفاعلك بهذه القراءة النيّرة .. وهذا حسبي
تحياتي