أصبح الغناء في هذا البلد لا يرطب أذني ..
والموسيقى أصبحت تتوكأ على عكاز النشاز ..
كالورود التي سقيت حديقتها من مياه مخلفات المصانع ..
والطيور عرفت نقاط الضعف لغير ذوي الأجنحة وأصبحت تجرح وتمرح من ذاك الوجع ..
تصطف طوابير أحلامي على رصيف جفني لا تغتسل من فشلها بالدموع ولا تغرق وتنزل مع طمى الكحل , بل تظل معتكفة محرابها الذي ترتطم أركانه بالصدى..
أركانه التي يراقصها الخواء , ويصفق صرير الأبواب أخماسه بأسداس زوايا هدوء مصبوغ بالتوجس والترقب ..
كنت أقول دائما لماذا يشكون الجميع عن الهموم ؟
لماذا يتبدل كل شيء ويظل الهم جبلا لا يبرح مكانه ولا يبدل طقوسه حتى إني لم أر يوما هماَ لبس ثوب الفرح مع أن دمعة الفرح تستعير ثوب الحزن ..
لكن الحزن لا يقتد بأحد ولا يحاكي احد كذلك الهموم , تجتاز طرق السعادة وتكسر جسورها كي تحفر في الهواء أنفاقا عميقة , معلقة , مرهونة للعناء ..
لكم تمنيت أن أرى في أحد الأيام هماَ وقع من الجبل وانكسرت رقبته ..
ولن يرفع بعد ذلك يده فوق الفرح , أعتاد أن يفتح له الدولاب ويخيره بين أثواب مطرزة بالغم .. إنها أوهام تتهاوي ,,تتدلى كخيوط دخان يمتطي الضباب يوم صفو كئيب ..
وهمومي تمتهن الارتجاع حيث لا يبيعها احد تذاكر القطار كي تتنفس بعيدا عني,,
حتى النسيم الذي أشرع له النوافذ يأتيني برائحة منديل من احترف نسياني ,, وكأنه يقول لي , غير مسموح لك سوى أن تلسعك الرائحة , كما يفعل الباعة في محلات العطور حيث تلهب جلد كفك بمسحة رائحة لن تلج معك من باب منزلك , ولن تتحرك من رفوف المحل , ولكنك تظل تعد العدة للعودة إلى ذلك المحل بغية أن تدخل المنزل في احد الأيام برفقتها , وهكذا فتحت زر قميص الصمت لتمتلئ مسامات الكلام ,, و ينسكب كل الذي قيل والذي سنقوله قبل أن نقول يترقرق في السمع ويغرق قنواته بالشمع ولعل السمع يجب أن يكون في مكان آمن , مكان يحتفظ بدرجة معينة من الحرارة , حرارة اللهجة وحرارة النبرة , حرارة البرودة ذاتها , وحرارة رد فعل مكبوتة , حرارة وقع الصوت و كأنه السوط , وحرارة المحرار الذي يتحمل كل هذا الصخب ولدغات اللهب , وحرارة الشوق للتنائي حيث البعاد سوط يهذب الذاكرة ..
وتهذيب الذاكرة وقاية..كلما تعرت أمام النسيان يسترها الأمر المشابه لذاك الأمر , الأدهى أن النسيان يستتر بالذاكرة يدرك ذاته نظرا لتفوقه على الاجترار وأما الذاكرة فهي حالة مفضوحة لا تتقن سوى وظيفة واحدة , وهي ,, تعرية الأمر في حالة هوس الاستدعاء تسبق الهرولة إلى الغاية , وتظل الذاكرة المحمولة على كفوف الألم تخشى حتى الطريق المعبد لعله يكون محفوفا بكل ما مرت به ذات يوم.. ويظل هاجسها بأن الذي تجرعت منه يكفي ليكون كالنقش على الجحر.."التقينا" وكأي تكافؤ يساوي مقبل / مدبر في لحظة اللقاء التي لبست قميص الوداع.