علي يعقوب
قسوة العادات والتقاليد لاتفرق بين رجل وامرأة
يا إلهي.. وأخيرا انزاح عن كاهلي هذا العبء الثقيل، لقد تزوجت أصغر وآخر بنات عمي، وزفت إلى عريسها بعد رحلة معاناة طويلة لي معها وأخواتها، دامت 10 سنوات كاملة، لم أذق فيها طعم الراحة، وتكبدت فيها من الإحراج، ما تنوء الجبال عن حمله، وأصبحت خلالها علكة في ألسنة الناس.
لا تستغربوا مما أقول فهذه هي الحقيقة، رغم أنف كل الجمعيات النسوية، والمدافعات عمّا يسمى "اضطهاد المرأة"، بفعل الظروف الاجتماعية والعادات والتقاليد التي لا يرون لها ضحية سوى المرأة والمرأة فقط؛ بينما الحقيقة أننا نحن معشر الرجال نعاني من هذه العادات والقيم الاجتماعية البالية ربما أكثر من المرأة، لكننا لا نجرؤ على الاعتراف والبوح.
قصتي مع التقاليد
نعود إلى قصتي مع بنات عمي التي بدأت حينما تقدم عريس للابنة للكبرى فيهن، والتي تصغرني بعام واحد، كنت وقتها ما زلت طالبا في الثانوية العامة، ولم يثر هذا الأمر أدنى انتباهي، غير أنني لاحظت الكثير من "الهمس"، و"اللمز" من قبل أفراد العائلة والمعارف، قبل أن ينتقل الكلام إلى مرحلة التصريح.
فوجئت وقتها بالجميع يستنكر صمتي وموقفي السلبي من العريس المتقدم لابنة عمي، فحسب زعمهم أنني أحق بها، لأن العادات والتقاليد تقرر ذلك، وأنه من العار أن أجعل غيري يأخذها وأنا صامت هكذا دون حراك.
وكان البعض أكثر صراحة، حيث إن ابنة عمي تلك كانت على درجة من الجمال، تجعل موافقتي على زواجها من غيري غباء و"هبلا"، مطالبين إياي بالتحرك العاجل، قبل الاضطرار إلى إنزال ابنة العم من على ظهر الحصان، كما يقول المثل الشعبي، وحذروني من أني سأعض أصابع الندم كثيرا إذا فوت على نفسي فرصة الزواج من هذه الحسناء.
واجهتني هذه المشكلة على حين غرة، كنت وقتها منزعجا للغاية، فعن أي زواج يتحدث هؤلاء وأنا ما زلت مراهقا لم أبلغ الـ 17 من عمري، كما أنني ابن أسرة فقيرة بالكاد توفر قوت يومها، وأحتاج إلى 10 سنين على الأقل كي أوفر تكاليف الزواج، فهل أفعل كما يفعل البعض و"يحجز" ابنة عمه 10 سنوات أو أكثر "معلقة" حتى يتيسر له أمر الزواج؛ الموت أهون عليّ من أن أضع نفسي في هذا الموقف.
والأمر الأهم في الموضوع أن أسرتي تختلف كثيرا عن أسرة عمي، من حيث الثقافة، والعادات والتفكير، فنحن وإياهم على طرفي نقيض، (لا أقول إننا أفضل منهم، أو هم أفضل منا) وهذا الأمر جعلني أنفر من فكرة الاقتران من أي من بنات عمي، رغم كل ما يقال عن جمالهن.
أحزنوني دون حزن
بعد أن اتخذت موقفي الرافض هذا، اعتقدت أنني حسمت الأمر، وسأستريح، ولكن هيهات هيهات، فقد بدأت حرب الهمس واللمز والغمز مرة أخرى، فبدأت أسمع أقوالا بأني أكذب على نفسي، فأنا أريد ابنة عمي، لكني لا أملك الجرأة لقول ذلك، وكلما رآني أحدهم حزينا أو شارد الذهن لأي سبب كان، أرجعوا الأمر على الفور إلى حزني على زواجها من غيري.
يا إلهي.. ما أسوأ تلك الذكريات، كنت وقتها أتمنى الصراخ في كل تلك العيون التي تتغامز علي، وتلك البسمات الصفراء بقولي: "بالله عليكم كفى، ارحموني، كفاكم إحراجا لي، لماذا كل هذا؟ هل هي نهاية الكون أن تتزوج فتاة، لها ابن عم لا يرغب بها؟!".
ولكن، أني لي ذلك، فأنا في مفهوم هذا المجتمع "رجل"، حتى وإن لم أكن قد تجاوزت الـ 17 من عمري، ولا يجوز للرجل أن يشتكي كما النساء، أو أن "يفضفض" عما بداخله حتى لا يجرح رجولته ويحافظ على هيبتها.
قد يسخر البعض مما أقول ويعتقد أن المشكلة تكمن في أنا، وفي ضعف شخصيتي، ربما هذا فيه شيء من الصحة، فقد كنت صغيرا، وكان الأمر شديد الإحراج بالنسبة لي.
على العموم، مضت تلك الأزمة، ونسيتها ونسيها الناس بعد زواج ابنة عمي بسنوات، وكنت وقتها قد كبرت قليلا، ودخلت الجامعة، وبدأت مداركي تكبر شيئا فشيئا، وتفتح وعيي أكثر فأكثر، قبل أن أصرع بأزمة جديدة، ما أزال أتذوق غصة مرارتها في حلقي حتى الساعة.
كلاكيت ثاني مرة
يومها جاء عريس لابنة عمي الثانية، ويشهد الله أن مشاعري نحوها كانت مثل مشاعري نحو أختها الكبرى، كما أن أوضاعنا المادية كانت تسير نحو الأسوأ، فلم أتأثر وقتها، وعزمت على ألا أكرر ما حدث قبل سنوات، وأن أكون قويا، وألا ألقي بالا لأي كلمة تقال علي، أو نظرة تلقى إلي، لكن ما جرى أسقط كل الموانع والجدر التي أقمتها.. وإليكم ما حدث.
لاحظت وقتها أن النظرات التي يرقبني بها الجميع غير طبيعية، وتتجاوز حدود الظنون، كما في السابق، وزاد شكي حينما كان الجميع يصمت فجأة ويقطعون حديثهم لحظة دخولي؛ تيقنت وقتها أن في الأمر سرا ما، فذهبت إلى أمي، وطلبت منها أن تخبرني بصراحة وبدون "لف ودوران" عما يجري من ورائي، فأخبرتني ويا ليتها لم تخبرني بما سأطلعكم عليه الآن.
هل تصدقون أن أبي حينما علم بقدوم العريس إلى ابنة عمي تقدم لخطبتها لي -من باب أن ابن العم أولى- من دون أن يأخذ رأيي أو حتى يخبرني؟ وأن عمي رفضني لأني ما زلت طالبا وفقيرا، بينما العريس القادم من الأثرياء.
هذا ما حدث، أيها الأعزة، ويعلم الله وقتها ماذا أصابني من الهم والغم والإحراج، فما حدث يؤكد أولا: أنني أريد ابنة عمي، وهذا ليس صحيحا، وسيوقعني في دائرة القيل والقال التي أبغضها، وثانيا: أصابني الحرج الشديد لرفض عمي لي، رغم سروري في قرارة نفسي لهذا الرفض، فقد كانت موافقته على الزواج كارثة بمعنى الكلمة بالنسبة لي، للأسباب التي ذكرتها توا.
وثالثا وهو الأهم للأسلوب الذي اتبعه أبي معي، وهو الذي لا يجرؤ أحد أن يتبعه مع النساء، فوجدت نفسي سأتزوج رغما عني وبدون علمي، ويكفي هنا ما ذكرته عن تلك الفترة القاسية، فلا أريد أن أتذكر أكثر.
اصرخوا أيها الرجال
بقي أيها الأعزة من بنات عمي اثنتان، تزوجتا واحدة وراء الأخرى، ولكن بهدوء هذه المرة، ودون أن يتسببا لي بأي إحراج، وذلك فيما يبدو لأني أصبحت "بليدا" غير عابئ بما يجري، وكان الجميع يتحاشى الحديث معي في هذا الموضوع؛ لأنه يعلم مسبقا ردة فعلي وما ستكون عليه.
وها أنا ذا ما أزال أتجرع مرارة الحزن كلما تذكرت تلك الأيام وأحداثها، لأني أتذكر مشاعر الظلم الشديد الذي تعرضت له دون ذنب ارتكبته سوى أني رجل ولي بنات عم علي أن أنزلهن من على ظهر الحصان.
وأحيانا أعزائي أحاول أن أستفيد من هذه التجربة، كي أزيد خبرتي في الحياة، وأصبح أكثر قوة في مواجهة مصائبها، فأظل أفكر فيما جرى، ولماذا حصل لي ما حصل رغم أني "رجل" ويفترض في مجتمعاتنا الشرقية أن أكون أنا الجاني ولست الضحية، فالضحية المفترضة دوما هي المرأة والمرأة فقط.
وأسال نفسي: إذا كان الرجل يعاني والسبب هو نفس السبب الذي تعاني منه المرأة، وهي بعض العادات والتقاليد والقيم المجتمعية البالية.. فلماذا لا يجرؤ الرجل على الصراخ بأعلى صوته طالبا رفع الظلم عنه كما تفعل المرأة؟ لماذا يناضل الرجل الذي يكد طوال نهاره، ويعود آخر النهار منهكا وخائر القوى، ورغم ذلك لا يطالب بالعدل والإنصاف والرحمة من ظلم القيم المجتمعية الواقعة عليه كما يفعل الطرف الآخر؟ ويبقى أن أقول في النهاية إن بقاء الصمت بدعوى الرجولة يعني بقاء الألم.