ككلّ مرة يُطلبُ مني أنْ أكتب للبلد الذي أنتمي إليه, أجدني وأنا الذي أحترف اللغة, تماماً كما يحترف طيرٌ مُهاجرٌ أصول الطيران, لا أقوى على كتابة حرف واحد, أطفىء به فضول الناس, وأحلق بألقه إلى تلك الروابي التي تربع فوق عرشها السالفون, أمثال, الأستاذ " محمود العمري "- ابن الفاروق - .
ذلك الرجل الذي لفرط ما حلم بوطنٍ يموت لأجله, وجد في أواخر سنين حياته وطناً يموت على يديه.
محمود العمري .. الشاعر، الذي بعد أنْ أفنى أزهى سنين العمر، وهو يحاول " الوثوب الأعظم " بأمةٍ ضاقتْ ذرعاً بحاضرها , وخافتْ جداً مِنْ مستقبلها , وفرَّتْ كثيراً إلى ماضيها.. نَـزَل عن صهوة حصان الشعر مخذولاً مهزوما, وكأنّه الضائعُ أبدا ً وهو يُـفـتـشُ في السراب عن حقيقةٍ كانتْ تُدعى وطناً , قبل أنْ يُحيلها المُزايدونَ عليه في الوطنيّة, إلى تنهيدةٍ يُطلقها عزيزُ قومٍ، سُحقتْ عزته وكرامته في أقبية النظام، على يد أزلام النظام.
نزلَ العزيزُ ذات يوم عن صهوة جواده.. وافترشَ لحداً مِنَ الأرضِ ضيّقاً, مُكفّناً ببيتِ شِعرٍ كان قد كتبه ذات وقفة صادقة مع الذات, يقول فيه:
موطني الأردن لكني به *** كلّما داويتُ جُرحاً سالَ جرحُ
مثله .. بعد عشرات مِنَ السنين مَرّتْ على أفول نجمه, أراني كلما أقبلتُ صوب صدر الوطن, فاتحاً له ذراعيَّ كمحب عاشق مشتاق, أخرجَ لي مِنْ حقيبة تجّار شنطته, مبضعه ذو النصل الحاد, وغرسه في أعمق الأعماق, مُخلّفاً في داخلي جرحاً لنْ تُـشفيه خطابات الإصلاح أجمعها.
أدري بأنَّ الكثير ممن أعرف ولا أعرف.. سيلومني على هذه الكلمات.
وأدري ..بأنَّ هناك مِنْ سيزايد, في سوق المحبة الوطنيّة, على وطنيّتي وانتمائي.
وأدري تمام الدراية, أنَّ هناك مِنْ ستصل به الأمور إلى حدّ تخويني.
ولهؤلاء و أولئك .. أقول:
معنى أنْ تكون كاتباً.. هو أنْ تفكر ضدّ نفسك, أنْ تجادل, أنْ تُعارض, أنْ تجازف, أنْ تَـعـي منذ البداية أنْ لا أدب خارج المجظور, ولا ابداع خارج الممنوع, ولا خارج الأسئلة الكبيرة التي لا جواب لها . فأنْ تمتهن الكتابة.. يعني أنْ تغادر عمر القناعات, وتدخل سن الشك, في كل شيء .. كل شيء.
ذلكَ أنه مِنَ السذاجة في مكان, الإعتقادَ بأنَّ الوطن هو مُجملُ هذا التراب المنعوث في الطرقات، أو تلك الإحداثيات التي يقترحها "مسّاح الأراضي" على زاوية المخطط. فالذين يموتون في حروب التحرير, وثورات الحرية, هم غالباً الفقراء الذين لا يملكون شبراً واحداً من عقاراتِ بلادهمْ.
لذا ; فإنّ فكرة الوطن تكمن هناك.. في الانشداد الغريزي الى الرحم.. إلى تلك العلاقة بين المكان و " الخريطة الجينية" المشوقة بين أديم الأرض والأجساد التي راكمته مِنْ جلدها.. إلى ذلك الشغف بنوم القيلولة تحتَ شجرةٍ شهدتْ ذكريات أيام زمان.
الوطن.. هو فكرة الدفاع عن سرير النوم .
هو التشبّث بوسادةٍ مرنّغةٍ بأحلامٍ بالغةَ الخصوصية.
هو التعلّقُ بأرضٍ أقامتْ لكَ احتفالاً عارماً حينَ صَرَخْتَ صرختكَ الأولى.
في المحصلة أيها الجاهل؛ عليكَ أنْ تعلم أنَّ الوطن ليس هذا الجسد الصلّد المحشوّ بالماء والموتى .. وهو قطعاً، ليس وجهتيْ نظر بين سمسارين مختلفين في سوق الشقق.
وهو أبداً ما كانَ يوماً " أطلس الخرائط " في حقيبةِ تلميذٍ مدرسيّة، ولا تلك الذريعة التي يسوقها الشهداء في معرض تبرير الموت المبّكر.
هو ليس شهواتُ اللاجئينْ، ولا حدائق البيوت المكسوة بالقُرَمْ الخاصة بالسادة الجالسين فوق القانون وفوق المحاسبة.َّ
بوقفة التأمل تلك.. اكتشفتُ بأن الوطن, هو ليس أكثر ولا أقل, مِنْ تلكَ التنهيدة التي يُطلقها غريب في قاعة مطار كبير ..مطارٌ بحجم العالم.
حزيناً أقولها ..