قصة قصيرة كحياة رزان...! ¹
تنام جزيرة "فَـرَسان" كل ليلة محتضنة أحلامها المستحيلة... قابعة وسط الماء الأزرق المالح الذي يستمد ملوحته من عرق ودموع الكادحين تارة ومن فضلات يخوت النخبة تارة أخرى!
وحين يصبح ناسها قبل بزوغ شمس الوطن؛ فهم لا يعبأون من أي جهة ستطل عليهم... وذلك بعد عقود من مضغ أسطورة شمس الشمال!
"رزان"... تلك السمراء الجميلة المسكونة ببراءة وطهر الطفولة... غضة العود كثرى تهامة... تلعب مع صويحباتها اللائي يبتكرن ألعابهن كأبدع ما يكون، دون أن يسطي أحد على حقوقهن الفكرية وذلك على اعتبار أن "فَـرَسان" لم تخالطها براثن العولمة بعد!
وإلا فباقة ألعابهن لا تفوق باقات قناة "سبيس تون" أو"المجد" فحسب؛ بل إنها تبز خزعبلات "دزني لاند" بذاتها!
تشعر "رزان" بوخزات في بطنها كالسكاكين لا تكاد أمعاؤها الرقيقة تطيقها... لينطلق بها أبوها كالبرق نحو "العبّارة"... الوسيلة الوحيدة لربط "فَـرَسان" بالخريطة! مبحراً بها تجاه مستشفى جازان المدعوم بالكوادر الطبية العمالية /العالمية! حيث لم تحظ فرسان بهم بعد.
يُعمل صاحب المشرط سلاحه المدبب في بطن صاحبة الرقم كذا... _هكذا تتم معاملة المرضى هناك_ يستأصل الزائدة الدودية ثم يرمم الآثار و يدمدم المسألة فيمضي.
تفيق "رزان"... تعاود اللعب كطير أطلق سراحه... ثم لا تنسى أن تروي لبنات المدرسة كافة التفاصيل منذ الألم وحتى الغيبوبة الصغرى:
(فاطمة... فاطمة... شوفي الخيوط اللي في بطني... تصدقين خيطوني زي الثوب!)
(تصدقين لو قلتي لي قبل العملية كان كلمت أمي تخيط بطنك أحسن لك من خياطين المستشفى!) ردت عليها فاطمة بروحها الساخرة.
تكركر الصغيرات محتفلات بسلامة "رزان" المؤقتة!
بعد مرور شهرين تعاود الآلام أمعاء "رزان"... وتزداد وطأة الألم والحمى التي لا تنفع معها المسكنات الرخيصة... ثم يعاود الأب جريانه مع الريح مفجوعاً نحو رحمة مستشفى فرسان المتواضع...
خبرة حكماء المستشفى لم تسعفهم لمعرفة سر آلام الصغيرة!
لا يفكر الأب كثيراً قبل انطلاقه بـ"رزان" نحو مرفأ "العبّارة"... بانتظار موعد الرحلة الإجبارية.
أمواج البحر تتماهى مع أمواج الحياة لتؤجل الرحلة نحو مستشفى جازان الأقل رداءة من سابقه!
يوما... يومين... ثلاثة... و "رزان" تتألم وقلب الأب يتألم و "فَـرَسان" تأن... بينما أصحاب المكاتب الوثيرة يبدلون مشالحهم عند كل احتفال!
(لا تقلق يا "أبا رزان" لقد تم اكتشاف سر آلام ابنتك ولله الحمد... فقد بينت الأشعة وجود جسم غريب في أحشائها وسنقوم بعمل اللازم لإزالته هذا كل ما في الأمر...) طبيب مستشفى جازان يطمئن الرجل بعد وصوله لإسعاف "رزان".
(أهذا كل ما في الأمر؟!!) يصيح "أبو رزان" في وجه الطبيب (أي جسم غريب؟! وعن ماذا تتحدث؟!)
(لا تنفعل أرجوك...) يخلع الطبيب نظارته ليكشف عن عينين باردتين:
(هذا يحدث كثيراً في مستشفيات منطقتنا الراقية فالطبيب بشر يخطئ ويصيب وقد كان قدر ابنتك يومها أن الجراح نسي كمية لا بأس بها من "الشاش" في بطن ابنتك! هذا كل ما في الأمر...) كرر الجملة الأخيرة بثقة كادت أن تفقد "أبا رزان" بقية تماسكه ثم أكمل الطبيب مرافعته:
(فربما كان مجهدا ليلتها جراء كثرة المرضى... وعلى أية حال هذا كلام في الماضي...)
(الذي هو نقصان في العقل طبعاً) قاطعه "أبو رزان" بحرقة ثم طوى شريط الكوابيس الجاثمة على أفقه وقال:
( والان أيش بتسوي للبنت ؟!)
( اطمئن... الأمر أسهل مما تتوقع، عملية بسيطة لا تستغرق نصف ساعة وبترجع بنتك زي الحصان)
ينتظر "أبو رزان" خارج غرفة العمليات والساعة لا تكاد تحث دقائقها على المرور، وقد أودع قلبه للمجهول، وفلذة كبده بين مشارط بشرية تخطئ ولم يرها قط تصيب!
أربع ساعات استغرقها احتساؤه للصبر والانتظار المحرق...
يخرج الجراح وقد تصبب جبينه عرقاً واسود ّوجهه كقطعة "الشاش" التي تتدلى من يده: ( المعذرة يا أبارزان... وأنا في طريقي لانتشال قطعة "الشاش" اللعينة، قمت بقطع القولون خطأ ً... وقد تم عمل أنبوب خارجي للتصريف وابنتك على ما يرام الآن... برضه أنت إنسان مؤمن بقضاء الله وقدره و...)
(قلّي أنك مجهد أنت الآخر ... وأنك بشر تقصب وتصيب! يا أخي أنتم من أي مجزرة تخرجتم؟!) انفجر "أبو رزان" في وجه الجراح شاهرا ًيديه على وجهه...
(ألا يوجد في هذا الكون أداة تدريب غير ابنتي "رزان" كي تمارسوا عليها أخطاءكم؟!
انتم ما تخافون الله؟!)
(لا حول ولا قوة إلا بالله... لا حول ولا قوة إلا بالله...) سُمعت حوقلته في كل ردهات المستشفى... ثم هام على وجهه بحثاً عن مسؤول وما من مسؤول.
ظلت "رزان" تحت المهدئات المقلقات وتحت متابعة الطاقم الـ..فاقد الشيء... قرابة الشهرين... حتى قدر لصحفي من أبناء المنطقة أن يكشف جزءً من الحجاب لينتشر الخبر الصاعقة بسرعة لدى الناس ثم يصل ببطء لأسماع الوزير الذي أمر بنقلها لأحد مستشفيات العاصمة.
استبشر "أبو رزان" خيرا... فعلى الأقل سوف يغادر بؤرة التجريب التي ظلت "رزان" ترزح في كنفها طيلة الأيام العجاف الماضية...
في الأسبوع الثاني بدت على محيا "رزان" ابتسامة مشرقة... ولعلها بوادر استجابة للعلاج المكثف الذي أعطي لها منذ وصولها إلى "الرياض"... وكانت "أم رزان" متفائلة بعودة سريعة لجزيرتهم الحالمة ففي تلك الليلة أخذت تجهز الحقيبة فمن يدري فربما يكتب الطبيب ورقة الخروج في أي لحظة!
ازرقّ وجه رزان فجأة وبدأت بالسعال ثم تقيأت سائلاً أسود لم يعرفه أبواها فصرخ الأب في وجه الممرضة الآسيوية المسكونة بالسلبية: (أن نادي الطبيب بالحال) فاتصلت بالطبيب الموجود في بيته على جواله فقام بإعطائها بعض التوجيهات بعد سؤالها عن خطورة الحاله وختم كلامه بوصفة "فيفادولية" ناجعة.
(ماما... بابا... أنا تعبانة وأبغى أنام... ) ²
نامت "رزان" وارتاحت كما ينام ويرتاح المأتمنون على أرواحنا... وتركت لنا أنموذجاً _سينسى_ للقابعين على هامش الخريطة!
عبدالرحمن الخلف
أبو نزار
29 ربيع الأول - 1427هـ
____________________________
1- للأسف... القصة ليست من نسج الخيال!
2- حسب صحيفة "الجزيرة" فالعبارة مقتبسة من آخر جملة نطقتها "رزان"