غدير ..
نعم .. كان اسمها غدير ..
جميلة جدا رقيقة ، بيضاء ذات شعر أصفر ، مكتنزة القوام ، إن ابتسمت أو ضحكت يخالها الناظر تبكي ، ويلحظ أن خلف هذه الضحكة حزن كبير ، شفتها دائمة الارتعاش ، وعيناها تلتمعان بدمعة لا تسقط ..
شابة اقتربت من العقد الثالث ، مطلقة ولها ولد وحيد كان الحب الذي يملأ حياتها و كل وجودها ، هذا كل ما كان يعرف عنها ..
جلست مرتبكة حزينة ، توشك أن تنهار لكنها تمالكت نفسها ، أخذت نفسا عميقا ، نظرت إلي و قالت :
ـ ليس لدي ما أخسره بعد هذا الطفل ..
لن أتركه يعيش اليتم وأنا أتنسم الهواء ..
لن أتخلى عنه كما تخلت عني أمي ، وتنكر لي أبي ..
لن أتركهم يبيعوا ابني كما باعوني بثمن بخس ، ليدفنوا معالم جريمة ارتكبها أحدهم بحماقة ؛ نزوة دفعت أنا ثمنها في كل يوم من أيام حياتي ، ومع كل شهيق وزفير ..
لن أسمح لهم أن يسلبوني فلذة كبدي ليلقى به في أحضان البؤس كما فعلوا بي ..
من يفترض أنه والدي رجل ثري كثير السفر ، من عائلة معروفة وله مكانته الاجتماعية ، متزوج وله أبناء لهم مراكزهم ، تعرف على والدتي اليونانية الأصل في إحدى سفراته ، لتحمل ثمرة نزوته العابرة ..
خشي الفضيحة ..
فأوكل أمرها لصديق أشفق عليها ، عرض عليه أن يترك أمر رعايتها له و لزوجه التي تكفلت بها إلى أن رأيتُ النور على يديها ، ثم رحلت والدتي دون أن يعرف أحد وجهتها ..
منحني هذا الرجل الصالح اسما وهوية ، وتربيت في كنفه بين أبنائه ..
كان والدي يرسل مبلغا يسيرا من المال طوال فترة طفولتي بواسطة أحد الأشخاص ، كنت أعرفه بصفته محاميا ، والذي اكتشفت فيما بعد أنه عمي وشقيق والدي الذي تبرأ مني ..
إلى أن أتى ذلك العم يوما يعلن فيه بأني خطبت ، ودون استشارتي عُقد قراني على رجل من البادية ، لم أره ولم يراني إلا حين ساقوني إليه عروسا ..
كان رجلا فظا ؛ لا يعرف من المدنية إلا اسمها ، بدائيا في كل شيء ، في حديثه ، في مأكله ، في ملبسه ، في معشره ، ضربني ، شتمني ، فعافته نفسي ، تركته وانا أحمل في أحشائي هذا الطفل ..
ثلاث سنوات مرت لم ير فيها وجه ابنه ولم يسأل عنه ، الآن يرفع قضية ضدي مطالبا بالطفل بحجة عدم أهليتي لحضانته لنسبي غير المعروف ..
لا أدري ما الذي يمكن أن أفعله لو حاول انتزاعه مني ؛ ربما اقتله لو فعلها ، أقسم سأقتله لو حاول ...
كنت أستمع بذهول لقصة تحكى ، وواقع لا يتسوعبه عقل ، بكت وبكيت معها ..
كنت أزورها كل يوم أو يومين ، أطمئن عليها والطفل ، أوصل لها ما تحتاجه ، إلى أن أتى يوم ذهبت لزيارتها ، ولم أجدها ، انتظرتها ، مرت ساعات ، ولم تأت ..
عدت في اليوم التالي والذي يليه والذي يليه ، بحثت عنها ، سألت عنها ..
اختفت غدير وطوى ذكرها الغياب ..
ليعود بنبأ موتها خلف قضبان السجن ..