وكأنما جَندت كل حواسها للاستماع إليه كانت بكل كيانها مشدودة إلى الهاتف, بماذا تفكر؟؟ ولماذا تشرد بعيدا وتتنهد بحرارة ثم تعود إلى عالمها ؟؟
جلست بالقرب منها وعن كثب تابعت لهفتها عليه وهي تكلمه كانت تهديه بعضا منها في كلمات حارة حرارة حبها وشوقها إليه , تلامس السماعة برقة بالغة وتتوه في الصمت بينما يخترق صوته الحواجز ويستقر هناك في ذاكرتها , عبارات كثيرة كانت ترددها تبحث له عن مبررات لغيابه، وعمّا يجعله يرتاح إلى أنها غير غاضبة ..
وأنا أتأمل نظراتها المشتاقة هالني أن أرى في آخر المكالمة دموعاً تتدفق من عمق القلب الحزين الذي يكتم ويكتم كي يظل الأبناء سعداء مرتاحين. أي طاقة منحكِ الله على العطاء والسخاء !!! ...
وكيف لنا أن نرد لك الجميل !! لكِ الله أيتها الأم الحنون وجزاك الله عنا خير الجزاء..
خواطر عديدة تزاحمت في شكل علامات استفهام ,عن أي شيء تبحث وقد أدت رسالتها على أكمل وجهٍ !!
وماذا تفتقد حتى تسيل دموعها بسخاء كقطرات المطر ؟؟؟
تسارعت إلي الكلمات تعلمني أننا نقصر جدا في برها إذا لم نرعَ مشاعرها الرقيقة ..
وانطلق عتاب خافت من عمق وجداني إلى أخي الحبيب:
لن أحدثك الآن عن أشواقي وحنيني للجلوس معك ولكنني أحمل إليك رسالة من أمي التي تخفي عنك الكثير , إليك ما جاء فيها :
ابني الحبيب , وفلذة كبدي نسيم عمري وقطرات الندى التي تروي عطشي؛ ليت صوتي الهامس يصلك ويمد للحب جسرا لا ينقطع أبدا , يربطني بك ويقربك مني ويجمعنا معا عند الله في جنات الخلد حيث يطيب للأحبة اللقاء...
هذه الكلمات كان مدادها العَبَرات , كانت تعبر عن ألمها بصمت يشبه صمت العابد المتبتل إلى ربه يرجو رحمته وينتظر الفرج , لم تَشْكُ قط منك ولكن إحساسي التقطها وجسدها في حروف لعلها تبعث في روحك بإذن الله الهمة في نيل رضاها , انظر هناك الجنة تنتظر، ألا تشتاق !!..
هي جنتك فلا تحرم نفسك من اغتنام الفرصة ....
أمي الآن تحتاج أكثر بأن تبرهن لها أنك تحبها جدا وأنك لم ولن تستغني عن خدماتها, هل تشعر بالاستغراب من كونها تحب أن تخدمك وأنت رجل متزوج !!..
حاجتها إلى العطاء هي حاجتها إلى الأوكسجين .....
كانت دموعها بالأمس تلخص شوق العمر وتجلى حنينها المشفق وكبر عليها أن يتسلل إليها الإحساس بأن دورها انتهى فقد أصبحت رجلا مسؤولا عن أسرة ..
وبدا العمر البعيد يثقل كاهلها بذكريات قد تكون هي كل ما تبقى لها منك.
خطر ببالي أن أسأل عن سبب حزنها ولكن الدموع الحرى التي انطلقت بحرية أعطتني بعضا من السر الذي أخفته عني طويلا ..
وتمنيت لو استطعت أن أنفذ إلى أعماقها وأعرف ما يجول بداخلها لو أمكنني أن أجسد الآية الكريمة حتى أنال رضاها حيث قال الله سبحانه وتعالى :
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24).
أرأيت , حتى كلمة أفٍ تؤذيها والله الرحيم بعباده لا يحب أن يرى دموع مَن أعطت وضحت وتعبت وسهرت , ومنحت عمرها بكل سخاء لتخدمك حتى توحد الله وتملأ الكون نقاء وصفاء، هل نجزيها بالجفاء ونغض الطرف عن حاجتها الإنسانية للحب والحنان ؟؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان !!!....
لا يوجد من هو أحق منها بأن تكون في حشاشة الفؤاد نبضا يذكرنا دوما بأن نكون في مستوى الرسالة التي من أجلها خٌلقنا.
قد لا تفهم عتابي ولكن عد إلى دفاتر الود, وتأملها ورقة ورقة وحرفا حرفا، ستجد الحب الندي الذي كان يغمر وجدانك فينثر عليه رياحين المودة ويتسلل إليها ويستقر في أعماقها فتجود كأجمل ما يكون بابتسامة تعلم جمالها وروعتها وتأثيرها علينا فهي مصدر سعادتنا.......
أخي الحبيب :
لم تفارقني صورتك وأنت ترهف السمع إليها وتتجاوب معها وتحاول بشتى الطرق أن تسعدها ,رجاء لا تقطع عنها مودتك ولا تجعلها تحسّ بأنك تغيرت ولم تعد تحتاج إليها واكتفيت , لا تبخل على نفسك بأن تتنسم رائحة الجنة وأنت ترى ابتسامتها وفرحها الطاغي بك ,هي روضة في حياتنا فلنغنم منها ما استطعنا وليكن حافزنا الأول رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
حاول أن تهديها هدية رقيقة و اكسب ودها وحنانها بكلماتك العذبة , أعلم
أخي أن مشاغلك ازدادت بالعمل والزوجة والبيت ولكن هل تكرمت بأن تعطي لكل ذي حقٍ حقه!!..
وتفضلت بأن تجعلها تتذوق ثمار صبرها وجهدها وسهرها وتعبها بجمال وروعة معاملتك المميزة لها !!..
استمتع وأنت تقبل يدها وتواضع كثيرا وأنت تحدثها و تطرب بكلامها العذب وامنحها كل الحب لا تبخل عليها به، فأنت جزءٌ منها ترتحل معها أينما ارتحلت، أنت ثمرة فؤادها وقرة عينها فلا تٌحزنها ببعدك عنها....
لو رأيتها والدمع يجري مدراراً من عينيها لطار قلبك وخف من أثقاله، ولَرَفَّ وحام حولها كما تحوم صغار الطير حول أمهاتها ...
تلتقط الحٌبَّ والحنان حينما تمنحه لك برضا نفس وفرحة قلب, تختفي تحت جناحها الدافئ من البرد و الخوف، تحتمي بصدرها الحنون من الشوق عندما تفترسك مخالبه وتلوع قلبك ظلال الوحشة فترتمي باكيا تبغي أحضانها , تتنسم عبق الطفولة بين يديها وتغدو طفلها المدلل إذا ما أنصت إلى نبضها الخافق بحبك , اقترب أكثر وأكثر وانهل من الحب حتى ترتوي , فقلبها دوما معطاء لا يمل ولا يكل، ذاك هو الذي أحس الألم بجفائك ولوعه الشوق وأضناه الحنين ,لو تلملم شتاته بكلمة، بابتسامة، بهدية، تختصر فيها حبك الكبير لها , ليتك تدرك سر سعادة أمّ رقيقة، عندما يبزغ الفجر وتباشير عودتك تغمر الكون فرحا وسرورا ................
أخي الحبيب :
الجنة تشرع أبوابها لك، ألا تشم ريحها وتغمر كيانك بنسائمها الباردة المنعشة!! وأنت تدخل على أمك الحنون الفرح، وتمسح عن كاهلها تعب السنين، وتثلج صدرها بكلماتك الحانية .
تحبب إليها وتودد فهي أحق الناس بك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم أبوك .
رواه البخاري ( 5626 ) ومسلم ( 2548 ) .
قال الحافظ ابن حجر :
قال ابن بطال : مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر ، قال : وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية ، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين } ، فسوَّى بينهما في الوصاية ، وخص الأم بالأمور الثلاثة ، قال القرطبي : المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر ، وتقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة ، وقال عياض : وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب ، وقيل : يكون برهما سواء ، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول .
" فتح الباري " ( 10 / 402 )
وأختم رسالتي إليك بكلام رب العالمين :
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15).
حسنية تدركيت من المغرب
نشر المقال في مجلة أمتي العدد : مايو 2008 م - العدد الرابع والأربعون 1429 هـ __________________