الجزء الرابع
في جوف الجبل،حيث الصمت المتحجر بعد أن أرخى الليل البهيم ستاره،جلجل صوته: "أقسم بالله العظيم،أن أكون مخلصا لديني و وطني ،و ألا أخون عقيدتي و مبادئي مهما كلفني ذلك". و بأدائه قسم المجاهدين،أصبح أحمد مقاوِما في جناح مسلح.
- "الله أكبر و لله الحمد" ،علت أصوات التكبير ،و غشيت الفرحة جموع المجاهدين و هم يشهدون انضمام ليث جديد إلى صفوفهم.
ما بين دموع فرحة و ابتسامة منتصرة،تسلم أحمد سلاحه و قبّل المصحف الشريف إتماما لبيعته و ولائه ،ثم اختلى بنفسه ضاغطا على سلاحه و تمتم هامسا: "انظري إلي يا أمي ،ها أنا ذي أضع قدمي على أولى عتبات تحقيق حلمنا،فلتقري عينا و لتنعمي.لو تعلمين كم تمنيت أن تكوني إلى جواري ،لكن الله قدر غير ذلك،فبوركت و بورك مثواكِ" ،ثم رفع سبابته عاليا و هتف:"إني أشهدك يا ربِ أن أمي و أبي قد غرسا ،فبارك غراسهما و كن لي معينا و مؤيدا" ،ثم جلس إلى نفسه وحيدا.
- "فيمَ يفكر بطلنا المجاهد؟" ،جاءه الصوت من خلفه ،فتلفت احمد ليرى ذاك المربت على كتفه ،و ما إن رآه حتى اتسعت حدقتاه دهشة،و عقد الصمت لسانه. بضع ثوان مرت قبل أن يتمكن أحمد من استجماع قوته و يقول: "أهذا أنت؟ ماذا تفعل هنا؟" ثم تلعثم قائلا: "لا تقل أنك ..."
- "بلى ،أنا منكم" قاطعه الشاب مجيبا.
- "لكن كيف ؟و لمَ فعلت بي ما فعلته؟".
تبسم زميله بدهاء قائلا: "و هل كنت تظن الانتساب إلى الأجنحة المسلحة أمرا هينا؟ لقد كان ذلك تدريبا و اختبارا لك،و كنت ليلتها المكلف بتلك المهمة".
و لما رأى الشاب الدهشة قد تملكت أحمد فلم يحر جوابا،جذبه من يده قائلا: "تعال لنجلس أسفل الجبل ،فأحدثك عما حصل لئلا تبقَ حانقا علي".
أمام نار صغيرة موقدة أسفل الجبل جلسا سويا ،ثم ابتدأ الشاب محدثا: "لا تزال قوي البنية كما كنت يومها، يبدو أن شدة التدريبات لم تنل منك".
- "أجل رغم أنني ذقت فيها الأمرين ،إنها صارمة و شاقة ،بل أحيانا تكون مهلكة".
- "كما كانت يوم التقيتك، أليس كذلك؟".
- "بلى ،لكن لمَ فعلتم ذلك يومها؟" تساءل أحمد مستنكرا ،فأجابه الشاب بهدوء متزن :"ظهر ذلك اليوم،استدعاني القائد العام و أخبرني بأنهم سيرسلون معك عدة قطع من الأسلحة،و يطلبون إليك أن تهربها إلى كتيبة أخرى،و أمرني بتعقبك و محاولة الاستيلاء على السلاح الذي بحوزتك،و بالفعل كان كما أراد".
- "ألم تكن عملية تهريب حقيقة؟" ،اندفع أحمد مستفسرا.
- "كلا يا صديقي، كانت مفتعلة لاختبارك" و تابع الشاب يسرد و أحمد يصغي بإمعان: "بدلت ثيابي العسكرية،و اصطحبت مجاهدا آخر ليرافقني ،و بعد العصر أعلمني القائد العام بأنك قد تسلمت السلاح،و ستنطلق في رحلته عبر طريق تختاره أنت. كنت ذكيا حين اخترت ذاك الطريق الالتفافي الضيق،لكنك لم تتنبه إلى كونك مراقبا ،ربما لأنك حديث عهد بتلك المهمات. تبعناك حتى قربت الشمس من المغيب،ثم باغتك زميلي بضربة من الخلف فقدت بسببها اتزانك؛فخطفت منك حقيبة الأسلحة و انطلقت بها. ظننتني قد أفلت ّمنك ،لكنني فوجئت بك تتبعني و زميلي يعدو خلفك. كنت سريع البديهة فانتزعت الحقيبة مني حين دهشت لرؤيتك خلفي مباشرة، فأشرت لزميلي خلفك فطوقك بقوة ،و تعلم ما حصل بعدها".
تحسس أحمد موضع جرح في وجهه و ضمادة على عضده و قال: "لقد آلمتني جدا حينها.لم يكن ليخطر ببالي أن من يضربني بتلك القسوة هو مجاهد يعمل على تدريبي".
- "صدقت ،أعلم أنني قسوت عليك لكنني أردت أن أعلم إلى أي مدى قد تصبر قبل أن تفرط في السلاح الذي معك".
- "إلى آخر رمق و دفقة دم يا معلمي، لقد كان السلاح أمانة بين يدي ؛فكيف تتوقع أن أتنازل عنه".
ربت الشاب على كتف أحمد الجالس بجواره:" عرفت ذلك في عينيك حينها، فكانت إشارة مني لمجموعة من المجاهدين تتمركز في تلك المنطقة ؛فتدخلوا لتخليصك و تصنعت الهروب مع المجاهد الآخر الذي كان معي".
- "كانت حيلة مدبرة إذن".
- "أجل ،فأنت تعني لنا الكثير في القيادة. ستكون يا أحمد قائدا عما قريب لإحدى الكتائب المسلحة".
- "سأكون عند حسن الظن بإذن الله،اعتمدوا علي".
"أحمد ،إبراهيم،هل ترغبان بشرب الشاي مع الآخرين؟" اقترب منهما صوت جهوري مناديا،و مع اقترابه من ألسنة النار المشتعلة تبينت ملامحه الجادة ،فعرفه أحمد و لم ينكره ،و نهض إليه مسرعا: "ها قد أتيت أخيرا"،ثم نظر إلى إبراهيم الجالس و سأله: "أليس هذا هو الشاب الذي كان معك يومها؟". تبسم إبراهيم مجيبا: "بلى،إنه عبد المعز" ،فضربه أحمد بقبضته القوية في كتفه ضاحكا: "يالكما من داهيتين كبيرين"،و انطلق ثلاثتهم إلى حيث تجمع المجاهدون الآخرون.
أيام مرت،و أصبح أحمد قائدا يدير عمليات منظمة ،و مؤثرة في صفوف العدو؛فأحدث فيها بلبلة و اختلالا ،حتى أصبح من أهم المطلوبين لسلطات العدو.
صبيحة يوم ربيعي دافئ،اعتلى أحمد صخرة أعلى الجبل المطلّ على مخيمه الصامد،يتراءى له بيته الصغير بعيدا حيث ترك شقيقته الصغيرة. بهدوء و بخطوات مدروسة ،رفع أحمد إليه سلاحه و بدأ بتفكيكه إلى أن أحس بوقع خطوات تقترب منه شيئا فشيئا.نهض أحمد واقفا و صرخ في الشاب القادم تجاهه قائلا: "من أنت؟ و من سمح لك بدخول هذه المنطقة؟".
- "لقد أصبحت يافعا أيها الشاب الصغير،لم أتخيل أنني قد أراك بعد أن افترقنا"
- "كيف أتيت إلى هنا أيها الشاب؟ قد تكون في خطر جراء مجيئك إلى هنا".
ضحك الشاب مجيبا: "لا يزال قلبك طيبا كما عهدتك رغم أنك لم تتخلَ عن هذا العناد، لقد سألت الشباب الذين يحرسون المنطقة؛فقالوا أنني سأجدك هنا ،فدفعني شوقي إليك لآتيك". صمت الشاب قليلا لكنه لم يجد جوابا من أحمد الواقف واجما فأكمل: "يبدو أن الرجل الصغير قد نسي صديق طفولته بعد فراق أعوام طوال".
تهللت أسارير أحمد و بدت الفرحة تتقافز من عينيه و هو يعانق صديقه قائلا: "مجد،لقد كبرت يا فتى.كم اشتقت إليك، هل تخرجت؟ قل لي كيف كانت دراستك؟و متى عدت" ،و جذبه من يده بقوة و أجلسه قربه فضحك مجد عاليا: "لم تغيرك السنون، لا زلت عجولا، عنيدا و طيبا.حسنا سأخبرك بكل شيء لكن قل لي أولا كيف حال أسرتك الكريمة ،و والدك في المعتقل، هل من أخبار عنه؟".
ارتسمت على محيا أحمد ابتسامة حزينة و هو يقول: "لقد توفيت والدتي قبل عامين بعد أن أنهيت دراستي في المعهد. كان ذلك بعد زواج شقيقتي الكبرى بمدة"،ثم تنهد قائلا: "الحمد لله ،لقد فرحت بزفاف شقيقتي ثم بتخرجي،لكن همها و حزنها على اعتقال والدي كانا يقتلان كل شعور بالبهجة داخلها. بانضمامي إلى صفوف المجاهدين،غدت شقيقتي الصغيرة وحيدة ،أتركها في المنزل و تتفقد شئونها إحدى الجارات من وقت لآخر، ثم أعود ليلا لأجدها بانتظاري،فتزيل عني بابتسامتها الرقيقة تعب ذلك اليوم و نتسامر قليلا ،ثم أنام بضع سويعات و أعود فأتركها صباحا".
- "يالها من فتاة صابرة! و ماذا عن والدك؟"
- "لقد حكم بأربع مؤبدات و زيارته ممنوعة حتى من أقرب أقربائه". صمت أحمد قليلا ثم ضرب بمرح على كتف صديقه قائلا: "و أنت،ماذا فعلت بعد الثانوية؟ التحقت بالجامعة ،أليس كذلك؟".
- "أجل ،و سأتخرج نهاية هذا العام بإذن الله".
- "جيد ،و ماذا ستفعل بعدها؟".
أشرق وجه مجد قائلا: "سأنضم إلى صفوفكم يا صديقي".
- "لا" ،جاءت إجابة أحمد مغايرة لما توقعه مجد ؛فاستنكر سائلا: "و لمَ لا؟ هل نسيت أن بيني و بينهم ثأرا قديما؟".
فأجابه أحمد بهدوء: "لأجل ثأرك يا صديقي. أنت ستتخرج بعد عدة أشهر ،و ستكون لديك رسالة سامية لتؤديها. لو فعل كل الشباب فعلتك بعد تخرجهم، لما كان لنا و طن ،و لما قامت لنا قائمة. يجب أن نكمل بعضنا لا أن نلغي وظيفة بعض. حين ستتخرج ستكون معلما تربي النشء على حب الدين و حب الوطن،ألا ترى أن هذه ستكون رسالة عظيمة؟" ثم تلا أحمد قول الله تعالى:
"وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ " .
بدا الاقتناع جليا في ملامح مجد و هو يقول: " ربما معك حق ،إن خرّجت كل عام مئة طالب يتمسكون بدينهم و وطنهم فسيكون هذا أقسى على الأعداء من تفجير هنا أو هناك".
ما إن سمع أحمد كلمات صديقه حتى تنفس الصعداء،و جلسا بهدوء يتحادثان و يضحكان حتى قاطعهما صوت بعيد أتى مناديا: "أحمد ،اجتياح ، اجتياح"،فقفز أحمد سريعا تجاه الشاب الذي يركض: "ما الأمر يا إبراهيم؟ عن أي اجتياح تتحدث؟".
- " الآليات تجتاح مخيمكم، إنهم يبحثون عنك و عن رفاقك أبناء المخيم. أحمد إياك و الذهاب إلى هناك ،نحن سنتدبر الأمر ،ها قد جهزنا شبابنا و سننطلق" ،و انطلق إبراهيم يوزع الذخائر و الأسلحة تأهبا لمعركة قد تطول.
شعر مجد بتسارع النبضات في صدر صديقه،و بحرارة عارمة تجتاحه ،فقبض على يده قائلا: "إياك و التهور يا أحمد ،اثبت حيث أنت".
- "شقيقتي يا مجد،شقيقتي. ربما هي وحيدة الآن في المنزل،كيف ستتدبر أمرها؟ ،يجب أن اطمئن عليها،سأودعها عند إحدى الجارات و أعود".
- "لن تذهب يا أحمد، لن تذهب. لن تكون لقمة سائغة لهم ،أفهمت؟. أنا سأذهب لأودعها عند إحدى جاراتكم؛فأنا أعرف بيتكم جيدا فلا تقلق"،و انطلق يعدو تاركا أحمد تأكله نيران الحنق،و تغزوه سيول من شفقة.جلس أرضا يستذكر أروع لحظات مع شقيقته الصغيرة. تذكر كيف كانت طفلة مرحة و شقية تماما كما كان،تذكر بكاءها الطويل يوم زفاف شقيقتهم و هي تتشبث بثوب الزفاف الأبيض ،و تصرخ في شقيقتها: "خذيني معك، أريد أن ألعب معك. أحمد لا يلعب معي ،أرجوكِ شيماء خذيني لنلعب"،حينها اقترب منها و حملها بخفة و قذفها عاليا ثم التقطها بحنان ،و هو يقول لها: "من الآن فصاعدا سألعب معك يا فتاة". كانت شقيقته- رغم تجاوزها مرحلة اللعب المعهودة- فتاة تملؤها الحياة ،بل لعل وجودها إلى جواره خفف عنه قليلا ألم فقد والدته و تجلد أمامها ليكون لها أنيسا و معينا.
تسللت من فمه ابتسامة صغيرة حين تذكر يوم عاد إليها قد علا التراب و الشوك ثيابه بفعل التدريبات،فثارت ثائرتها حين رأته على هذه الحال ،و ضربته بقبضتها الصغيرة قائلة: "ألن تكف عن توسيخ ثيابك بهذا التراب كل يوم؟ ألا يوجد عندكم تدريبات لا تلوث ثيابكم؟!" ،فأجابها بقبلة صغيرة على جبينها،فضحكت و قالت: "يالك من فتى مراوغ، هيا بدل ثيابك لأغسلها".
مر شريط الذكريات أمامه سريعا،لكنه استشعر فيه كل لحظة ألم و دفء عاشها برفقتها،و لم ينتشله من ذكرياته إلا طيف مجد قادما يلوح من بعيد ،فتسارعت نبضاته و ازدادت حدة و حرقة ،و أسرع إليه ليطمئن على سير الأمور ؛لكن رجليه تيبستا ،و ما عاد يستطيع حراكا حين رآها ممدة بين ذراعي صديقه ساكنة بهدوء. اقترب مجد يرتسم الأسى في كل جزء من قسمات وجهه،و قال لصديقه الواقف جامدا أمامه: "وجدتها عند باب البيت ،مصابة في أسفل رأسها و ظهرها،سيارات الإسعاف لم تتمكن من الوصول إلى أي جريح حتى الآن، إنهم في الأزقة ينزفون".
تحجر الدمع في عيني أحمد ، و تلقاها بهدوء بين يديه متحسسا دمائها الدافئة التي تغطي ظهرها،و ضمها إلى أحضانه. قربها إليه أكثر فاستشعر أنفاسا دافئة متقطعة تصدر عنها ؛فهتف في مجد قائلا: "إنها تتنفس،أعطني ماء بسرعة و استدعِ مسعفا إلى هنا،أرجوك يا مجد".
- "لا، لا وقت لذلك يا أخي" ،و ما إن سمع صوتها حتى اندفع الدمع ينحدر من عينيه ،و هو يقول: "اسكتي صغيرتي، يجب أن تبقي إلى جواري".
- "لا أخي ،أنت ستلحق بي يوما"،و رفعت يدها الصغيرة تمسح وجهه و دموعه بدفء و تتبسم بعذوبة متقاطرة و تقول بصوت خفيض متقطع: "لا تبكِ يا أحمد، أنت رجل و ما كان للرجال أن يبكوا . ارفعني إليك شقيقي ،أريد أن أقبلك".
زاد انحدار الدمع و نزفها،و علا صوت شهيق أحمد و هو يضمها إليه و يرفعها حتى قبلت وجنته ، ثم ارتخى جسدها ،و ثقل رأسها ، فانسدل شعرها على يده ،و أُغمضت عيناها ،و بقيت ابتسامة صغيرة مرتسمة لم تفارق شفتيها.
مرَّ كل شيء سريعا، شعر أحمد كما لو أن الزمن أيضا قد تآمر عليه فوأد لحظات سكينته و هو ينعم بهمساتها و لمساتها. قريبا منه وقف مجد يداري دمعه ،و يرسم ابتسامة مصطنعة قائلا: "رحمها الله صديقي، هاتها يا أحمد ،يجب أن ندفنها".
- "لا ، أنا سأدفنها بيديّ هنا أسفل الجبل لأنعم بجوارها دوما" ,و كفكف دمعه و قبلها بين عينيها ، ثم سار بها وحيدا يدندن لها: "نامي حبيبتي بأمان، نامي و انعمي بالسلام".
جلجل صوته مدويا يهز أعماق أعماق الجبال: "أقسم بالله العظيم أنني سآتيكم ، من فوق الأرض و تحت الأرض سآتيكم، مع موج البحر الهادر سآتيكم ، مع هزيم الرعود و قعقعة المواقع سآتيكم،و حينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون".
تمت بحمد الله
21-10-2008م.