أكلمك يا أبي
...و كل يوم أفتح شباك غرفتي و أرنو إلى السماء لعلني أراك يوما هناك.
أخبرتني أمي أن الشهداء لا يموتون بل هم عند ربهم أحياء يرزقون...أتراك لا تزال تذكر شكلي يا أبي؟ لقد تغيرت ...اممممممم...تغيرت قليلا...أصبحت في طول اكرة باب المطبخ المتآكل.
أمي صبحت تعتمد علي كثيرا ، كل يوم تعطيني بضع ليرات كي أجلب الحليب من الدكان المجاور .
البارحة وجدت جارنا الشيخ علي في الدكان . سألني : كم عمرك يا ولد ؟
فبسطت راحة يدي اليمنى و رفعت إصبعا من اليسرى. ربت على كتفي و قال في شموخ : أنت رجل يا صخر...و ما اختار لك أبوك هذا الإسم إلا إيمانا بصلابة الصخر.
ثم سرعان ما نسيني و استغرق في عالمه الخاص، و سبحته لا تفارق يده التي حفر فيها الزمن أخاديدا واضحة المرأى.
أمي تجلس كل ليلة أمام ماكينة الخياطة، تحيك و تطرز ثم سرعان ما تترك كل ذلك و تراقب القمر من الشباك. في احدى المرات ظبطتها تبسم له...جن جنوني...أمعلق في سقف السماء يسرق أمي منا؟
لكنني تذكرت فجأة ،أنك أيضا هناك...في الأفق البعيد...وربما كانت صفحة القمر تعكس وجهك الصبوح...و ربما ما أضاء القمر إلا لوجودك هناك.
لقد اشتاقت لك أمي يا أبي... كل شيء فيها يشي بذلك حتى و إن أخفت دموعها المتلألئة.
أتصدق أنني أرى وجهك منحوتا في عينيها ؟
أتصدق أني أسمع اسمك ممتزجا بنبضها؟
إنك معنا يا أبي...لم تغب عنا لحظة واحدة.
أخي محمود سألني عنك البارحة يا أبي ، أخبرني أن علبة الألوان التي اشتريتها له حزينة،و أن الألوان فيها باتت باهتتة كأوراق شجرة الكستناء.
أتذكر شجرة الكستناء يا أبي؟ أتذكر حينما علمتنا كيف نسقيها كل يوم؟ حتى هي اشتاقت لك. لقد باتت لا ترتوي يا أبي . تخيل أنني البارحة سقيتها ماءا خمس مرات و في كل مرة كانت تجف و تطلب المزيد...تخيل !
لقد صدقت يا أبي حينما قلت أن الحياة إحساس. كيف تحيا الشجرة إن صببت عليها ماءا، بل و أغرقتها فيه ،دون أن تحبها،دون أن تمنحها بعضا من روحك...بعضا منك.
اليوم حينما كنت جالسا فوق التلة، هبت ريح داعبت وجهي و وأصتني أن أقرئك السلام .
الوطن كله يحبك...لأنك منحته روحك و دمك...أعلم أن وطننا لن يضيع...و أعلم عادتي بالخربشة على الجدران و النبش في أعماق روحي...و أعلم أنك في جنان الرحمن تعيش.
رحمك الله يا أبي !!