هذه المشاركة مقتطفة من كتاب لسان المقال في النبأ عن الحسب والنسب والحال، لعبد الرزاق بن احمادوش الجزائري، وهو من علماء القرن الثامن عشر طبيب ورحالة ورياضي وفقيه، ينقل عن الكثير من كتب التاريخ في كتابه لسان المقال، وهي ما تبقى من رحلته الكبيرة إلى المشرق والمغرب، يذكر فيها قصة مقتل الحلاج ينقلها عن تاريخ ابن الكردبوس، ننقلها الآن بتصرف.
قال أبو بكر الصولي: لما دخلت سنة 309هـ وجه علي بن أحمد الراسي الحسين بن المنصور المعروف بالحلاج فأدخله بغداد هو وغلام له على جملين، وكتب على السلطان أن البينة قد قامت عنده، بأن الحجاج ادعى الربوبية ويقول بالحلول، فأحظر السلطان من يناظره فأسقط من لفظه فلم يحسن من القرآن ولا من الفقه ولا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من أخبار الناس وأيام العرب ولا من الشعر واللغة شيئا.
فقال له علي بن عيسى الوزير: ما أحوجك إلى الأدب، تعلمك لفروضك أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها...؛ ثم صلب ثم حمل إلى دار الخليفة فحبس فيها، فجعل يتقرب إليهم فظنوا أن ما يقوله حق، فأراد مستشارو الخليفة أن يؤدبوه فضرب بالسياط، وكان كثيرا ما يظهر للناس كرامات وأعاجيب مستحيلة؛ إذ حرك يوما يده فنثر على قوم مسكا، وحركها فنثر عليهم دراهم.
مرة قال له احدهم إنك تنثر علينا دراهم حقيقية، سوف أتبعك وأصدقك إذا نثرت علي دراهم علها اسمك لا اسم الخليفة، فقال له كيف وأن تلك الدراهم لم تصنع، فقال له الرجل: ما ليس بحاضر صنع له ما لم يصنع.
وقد كان ابن القرات قد حبس الحلاج في وزارته فأفلت هو وغلام يدعى بالكويناني، وأرسل موسى بن خلف للبحث عنه، فوجده هو والغلام ووجد لهما كتبا فيها حماقات وكلام مقلوب، فأمسكه الوزير بن حامد بن العباس البلخي السني، فأمر بصفعه ونتف لحيته وتم تعذيبه وفي تلك الأوقات تمت مجادلته مرارا.
قال الصولي: رأيت الحلاج مرات كثيرة وخاطبته، فرأيته جاهلا يتعاقل وعييا يتبالغ، وفاجرا يتزهد، وظاهره أنه ناسك صوفي، فإن قيل له أن أهل بلدة أو قرية يرون الاعتزال صار عندهم معتزليا، وإذا رأى قوما يميلون إلى الإمامية صار إماميا عندهم، وإذا رأى قوما من اهل السنة صار سنيا، وكان خفيف الحركة مشعوذا عالج بالطب وجرب الكيمياء، وما يغتر به الناس.
وروي عن أبي عبد الله بن خفيف الشيرازي قال: خرجت من شيراز قاصدا زيارة أبي الغيث الحسين بن المنصور الحلاج كي أسمع من مستحسناته وغرائب كلماته، فدخلت عليه السجن في سجنه في بغداد، فلما دخلت عليه سلمت عليه بصوت عال، فقال لي: وعليك السلام يا ابن الخفيف، فقلت له: وكيف عرفت اسمي، ولم تكن له معرفه بي من قبل، فقال الحجاج: ماذا تقول العامة عني؟ فقلت له: يا سيدي البعض يقول كاهن، والبعض يقول مجنون، والبعض يقول كاهن كل قائل على قدر عقله، فقال الحلاج: يا ابن الخفيف هذا كلام العامة، فما سمعته عن الخليفة المقتدر؟ فقلت له: يقول نقتله، فتبسم وقال شعرا ...
واكثر ابن الخفيف عليه الزيارة حتى قاربت خمسة مرات أو ست، ولما كان اليوم الخامس، قال الحلاج شيئا يدل على أن مقتله سوف يكون بعد 15 يوم، ثم قام متوضئا والتقط منشفة على بعد 40 ذراعا فلم يعرف ابن الخفيف أطارت له تلك الخرقة أن أنه مد يده إليها، فبقي متعجبا من هذا المشهد العظيم، فلما رأى في وجهه التعجب قال أشار له على جانب الحائط في السجن، فانجلى الحائط وظهر ما وراءه حتى رأى ابن الخفيف ماء دجلة...
قال ابن الخفيف: وكنت قد عزمت على الخروج إلى بلدي فتبصرت حتى أرى ما يكون من شأن الحلاج، فكان لما كان اليوم الخامس عشر إذا بالحلاج يصلب فدعا الخليفة فقطع يداه ورجلاه، فمشى تسعة عشر خطوة على كراسيع رجليه، فجاءه حامد بن العباس البلخي عند خشبته فقال له الحمد لله الذي امكن منك يا عدو الله فكيف رأيت تقبيل الناس يديك ورجليك وقولهم لك سيدي ومولاي وأنت راض بذلك؟ فالتفت إليه الحلاج وقال له: إسمع يا لكع؛ إن كنت تحسن أن تسمع، ثم أنشأ يقول:
تأمل الوجد الوجد *** والفقد والوجد وجد
والبعد لي منك قبل *** والقبل لي منك بعد
فكيف يثبت ثاني *** وأنت للفرد فرد
تحوز قلبي العاني *** وليس لي من ذاك بد
والشيء إثبات غير *** والشيء لا شك جحد
أعد في الناس مولى *** لأنني فيه عبد
قال ابن الخفيف: فقدمت إليه من الليلة الثانية التي صلب فيها فلما رأيته على خشبته التي صلب عليها قال لي: أذعنا بالحقيقة ففعل بنا ما ترى، فلما أصبحنا جاءه حامد بن العباس الوزير ومنعه موكب وصاحب الشرطة محمد بن عبد الصمد، فأخرج من كمه درجا فناوله لمحمد بن عبد الصمد فنشره، فغذا فيه شهادة أربعة وثمانين رجلا من الفقهاء والقراء أن قتل الحلاج فيه صلاح للمسلمين، ودمه في رقابنا، فقال الزير أريد الشهود، فهرعوا إليه، وقال لهم: هل هذه هي شهاداتكم وخطوطكم، فقالوا نعم، فنزل من على الخشبة وتقدم السياف ليضرب عنقه، وقال الوزير للشهود أمير المؤمنين بريء من دمه وصاحب الشرطة محمد بن عبد الصمد وأنا بريئان من دمه فقالوا: نعم، فتقدم إليه السياف فتبسم الحلاج وأنشأ يقول:
نيديم ليس منبوس *** إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يسقى *** كفعل الضيف بالضيف
فلما دارت الخمر *** دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح *** الممزوج في الصيف
ثم ضربت عنقه فبقي جسده ساعتين من النهار قائما ورأسه بين رجليه يتكلم بكلام غير مفهوم، إلا أن آخر كلامه كان: أحد أحد أحد، فتقدم إيه ابن الخفيف الشيرازي فإذا بالدم الذي يجري مكتوب على الأرض الله الله أحد أحد في نيف وثلاثين موضعا، ثم أحرق بالنار
قال ابن الخفيف: فرجعت إلى شيراز وبقيت أفكر في أمره مدة من الزمن حوالي أربعين يوما، فرأيت كأن القيامة قامت والناس في الحساب، وأنا أقول سيدي الحسين ابن منصور ولي من أوليائك سلطت عليه خلقك، فنوديت بالحق: علمته اسما من أسمائي يدعو به الخلق فباح بسري بين خلقي فسلطت خلقي عليه.
انتهى ما أورده الولي عبد الرزاق بن احمادوش الجزائري رحمه الله نقلا عن ابن الكردبوس
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم