رسائل إلى حصون اللغة
حصون الواحة
د. سمير العمري
أميرنا ،أردناك معنى وها أنت بالمعنى تتحد.
المعنى هو بناء ملكوت مجرد ذهني فكري قيمي غير قابل للموت ، مادام قابلا للتوالد أو التجدد والامتداد أردناك معنى وها أنت بالمعنى تتحد.
المعنى هو ما يشهره الإنسان في وجه المأساة، فردية أم جمعية، وفي وجه العدم، لا يصح ، في كلمة ما يمليها الحب، الكلام عن الثقافة وأعمدة المعنى، لكن يمكن القول : انك ذهبت في اتجاه ترميم المنظومة الرمزية القيمية والجمالية التي هددها شطط الألغاز، بل التي كانت هدفا أول بين أهداف العدوان على البنى والذاكرات والمعاني الشعرية الالقة.
أعطيت الرموز حضورا حيا، لكن العلاقة معنا نحن الذين نستقبل هذه الانسام والإشارات الباعثة للحياة ظلت ملتبسة، وتتوجب دراسة العلاقة بينك وبين اللغة، ذلك انك لم تذعن ولم يأخذك الطرب إزاء تلك العلاقة وكنت قادرا أن تستدرجنا إلى مواقع متقدمة في البحث عن المعنى.
وها أنت الشاعر المشغول باللعب بالمعنى وبافتتان الغاوين والغاويات ، لم ننتبه كيف غافلتنا وتغلغلت فينا ، لتقف خلفنا تماما ، وربما دخلت شرايننا ، داعبت شغاف القلب ، تمد لنا يدا ، نختبئ فيك ، وفي اختبار شعرك والحياة ، وتتابع إغواءنا، نبهتنا إلى أن الحياة حظ المتوكلين و المستسلمين والراضين ، وان المبدع حظه القلق وحظه الحزن وحظه التوتر وحظه السؤال وحظه العبث والهشاشة والانكسار والوقوف، حظ المبدع ضعف القلب وتوتر الشرايين حد الانفجار.
فانحزت رغم ذلك إلى اختبار اللغة واللعب بالمعنى وبالشكل وبالإيقاع كمن يراوغ الألم ليقهره ، أو كم يلاعب الحرف لعبة " الاستغماية" أطول مدة ممكنة ليقطف شمس اللغة ويخبئها لنا .
يا شمس لغتنا كم نجلك.
ربيحة الرفاعي
الصور وحدها تفضح الشاعر، تعزفين الموسيقى برزانة وحبور، تشابكين بين نغماتها، تداخلين، وتقاطعين ، وتنسجين ، وتستخرجين، فتنشأ شبكات من النغم تستسلم لها الذاكرة والأذن والأعصاب، وتزيغين المعنى عن محاوره والرؤيا عن مسارها، لكن بلذة لا تكاد تضاهيها لذة، فلا يأبه القلب لما زاغ أو تاه، ولقد لعبت باللغة في تكوينها كما لعبت بالنغم، ولعبت بالحيلة وبالوله نفسه، والطفولة ذاتها، والعشق عينه، وكنت تهندمين الحب والمشاعر والأرض والوطن، في بؤرة سلسبيل فتسبكين منها جميعا نسيجا مائيا رائقا تتفجر فيه هنا وهناك أصوات وقلوب وأضرحة يباب، تغرسين ياسمينة في المعنى ، وفلة في الشكل.
تختلسين السحر إلى منابع الوجود الأولى وهو على غضاضة العمر، وأفقه الجميل سيبقى متفجرا، متوهجا، كسيرا، عذبا إلى قرار الأزمنة ونهاياتها الفاجعة، أمسيت القصيدة القادرة على احتواء اللغة وطقوس الرموز، فالبيت يظل حالما ببيت يصل إليه، حيا أو محمولا على الأفق، يا سطوة الكلمة ، يا قصيدة ولغة وصورا متدفقة، لقد سيجت الكلمة بقدرها، في بديهية كلمتك لا تطغى الأسطورة على الوعي كما لا يطغى الرمز على الرؤية، لذلك يجب ألا نبحث في غضون الكلمة عن ترسبات واعية أو لا واعية لنص محكوم ومختوم بالإرادة السلطوية للمعنى، هذه الكلمة كانت تبحث عن البديهية والبداهة التي نضجت من اجل الجمال ، لم تنحتي وعيا منغلقا أو مضطربا لجمود أو جحود ، كان انطباعك هو تقاسم الروحي الذي يسافر في الاختلاف دونما عناء، دونما نكوص، دونما عجز بيني، لا ينتصر للرمزية الفارغة المثقلة بالهروب والعجز ، المثقلة بوهم الكلمة ، كل الحرية وكل الوعي يتجسدان ويمثلان، في لغتك، إلا وهم الكلمة ووهم المبدع.
وليد عارف رشيد
عذرا إذ أقول يا معلمي
أنهم يقولون : علينا أن ننتظر موت شخص لنستطيع أن نتبين قيمته بعدما يتوقف المسار، لكنك ، بأدبك وعبقريتك، تجعل العلاقة مفتوحة، فمن لغتك تطلع أجيال كما تشتهي، تحديت الفكرة وراهنت على زمن آت يضاعف إبداعك عبر صوغك لأحلام الناس، ونفاذك إلى مسالك النفس، ومحاورتك للأخر، ومواجهاتك عبر رقي الحرف.
ذهبت بنا على جناح الكلمة وفضاءات المعنى، استحضرت فينا طفولة الصباح في وطن يحلم بالحرية والبطولة، عانقتنا بالفهم واللغز، تغنيت بالأرض السيدة ، وغصت في بلور الأساطير وساءلت لغزيتها وخضت غمار التراجيديا لتستكشف أصل اللغة ورمزيتها القدرية.
ابن الأرض أنت ، الأرض المشدودة إلى صخرة سيزيف في عالم يغمض العين عن متاهة المأساة ، وأنت المصبوب من شغف وضوء ، كان عليك أن تعيش مغامرة اللغة لحسابك الخاص، أن تنوع البدايات ، أن تستدرج اللغة في تلاوينها وموسيقاها لتقترب من شفافية تسرق الوجدان قبل السمع، وتحرك الفكر فيما هي تناغي مشاعر الذات العميقة... الصورة ونقيضها، الكلمة ومقاماتها المتداخلة.
وأنت بإحساسك الذكي تناغم الأوتار: تقطف الغيم ، تسرج الخيل، تمتطي فرس الماء و" تؤثث النهار بدخان من لازورد" وتعتلي السنديان لتطل على شقوق المكان.
زهراء المقدسية
يا وحدنا ! يا وردة الكون الكبرى ، التي تفتحت، دونما إنذار، كأنها سقيت على حين غرة! سيحضن اللاجئون بك وسائدهم المعبأة بالأحلام، وسيرى بك الثائرون الحمام يطير على أسلاك الحرير.
بلغنا الجلجلة ، وانطفأت الجذوة على سرير القلب المخذول بأهله، الذين القوا أحلامنا تحت سواطير العماء، ولم نحتمل هذا السقوط، فصرنا قتلى الخيبة الكبرى، وعلى طريقتنا الأسطورية، نحتج على حياة أعدمت ما اجترحنا من عوالم ليس فيها كل الرداءة والنكوص والانهيار.
من حق الجليل أن يحتضن زيتونته وغزاله المكحل المزيون ، وان يحنو على الكرمل منشده الأجمل، وان يحمله على جناح النوارس إلى البحر، كما حمله إلى الدنيا ، بسنديانة وثياب أمه، وجدائل بنات المدارس، وطرقاته الوعرة الصغيرة، وبيوتنا التي رحلت خوفا من الذئاب.
ومن حقنا أن نندب ، كل مرة ، كما ينبغي ، تعبيرا عن هذا الغياب الغولي الهائل. إننا ناقصون إلى حد الفراغ! ولم يعد ثمة من يرمم صورتنا، ويجبر قامتنا ، قد ضعنا وتشظينا ، فكوني لنا .
محمد ذيب سلمان
تسرج مخيلتك وتتوغل في الأعالي ونحن وراءك نستدل بأثر خطاك مشدودين إلى جاذبية الصورة والاستعارات التي تشق هجير اليوم العربي وتبدد بعضا من عتمة لياليه المستدامة.
تكتب وترتل، قرار صوتك الشجي يهدهدنا، أدبك يتتالى ، وأنت تكبر في معنانا وعيون اللغة.
وفي لحظات التعب والكسل وفقدان اليقين، تتباطأ خطواتنا وتتحرك دودة اليأس في دواخلنا فيأتي صوتك ليقول بلساننا: ونحن نواصل في ما يشبه الموت ونحيا ، وهذا الذي يشبه الموت نصر.
لكنك حين عشت اللغة عن قرب وبدأ صراعكما يراوح مد وجزر، عناق وتحد، مناجاة وسخرية، أحسسنا انك تتوغل في سموات لا تقوى عليها أجنحتنا الطينية وحدك كنت ، مفتح العينين والقلب، متوحدا ، متحفزا، واجهت تجربة اللغة ، بارزت ملك الملوك المعظم عاهل الشعر القوي، و قائد الجيش الأشوري العنيد، بارزته فارغ اليدين، سلاحك الشعر الشغوف وباستمرار معنى الأرض، صائحا في وجهه: وانأ أريد اللغة كما اشتهي وأريد.
بشرى العلوي
المبدع الحقيقي يصنع القراءة التي هي استعصاء على الأنا واستعصاء على الفردية كما هي في الآن نفسه استعصاء على الكلية المحدودة أو المستخلصة من النهاية، لا شك أن الجواب سيكون الفيض اللامنتهي لحقيقة الكينونة في وعي التقاسم بين المبدع والقارئ، بين الموضوع والمقروء، الموضوع كينونة أبدية والقارئ بداية أبدية، هذا هو اللغز الذي ولد ونما وأتقنته منذ البداية، الذي صاغ للقراءة زمنا يستعصي على الفناء لأنك نطقت باللغة الجديدة في الحدود السرمدية للحياة والموت والألم وصنعت لها لغة فجرت دوائر اللغة الملحمية المكرسة للانطباع الوهمي بالرجوع بمعنى الولادة ثانية، الانطباع الوهمي بملحمة التكوين، الانطباع الوهمي للغة مهترئة، الانطباع الوهمي بنقطة النهاية ، قد كنت البداية وولادة اللغة الأصيلة.
لم تكرسي مقولة التجدد بل الانفصال بل جعلت للحرف ذاكرة وجعلت للذاكرة حلما وجعلت للحلم اختلافا ، كانت تتجلى عبقرية لغتك في قدرة اللغز على بناء عوالم من التجدد والتحول دون تكسير البنية الزمنية الواعية للحلم، الحلم الذي يمتزج بالألم دون أن يطغى الألم على الولادة الأولى، الولادة الأصل، ما يستشكل على القراءة هو ما يشكل الأفق المتجدد للإبداع ويشكل القراءة الوفية و الخالصة لجينالوجيا الموضوع والمقروء، ما يشكل القراءة الملتحمة بكنه الإبداع الذي هو أيضا في كل صيغه الكونية والذاتية ولادة أصل غير مصطنعة وغير مقفلة ولا تقبل الاستنساخ، أنت في كل هيولي إبداعك ولادة أصل الكون وذاتية الحلم والألم كما انك أيضا ولادة أصل القراءة.
محمد شعبان
لا احد، كما قلت، يستطيع أن يمنع شاعرا ينتمي إلى جمال الشعب وغضبه، من أن يحلق عاليا في سماء الإبداع معانقا الإنسان وأسئلته الكونية، تهمس في أذن العالم: إني أصالح نفسي فتدخل كل الشعوب في مدائح خمري ، إني أنا وهذي لغتي.
وهويتك ، صيرورتك، وأضيف: هي سر الوردة اليتيمة في البراري المتوحشة وقطرة ماء في قاع رمل متيبس، هي ما يحفزنا على أن نعيش في زمن سديمي بلا أفق أو نوافذ، متحدين العماء، مصرين على أن نبتدع لحنا أو نصا أو لوحة لنقاوم العقم وأعداء الحياة
ولم لا أقول أن الهوية هي عسل الشهوات ، الذي يجعلنا نرفض الرجوع إلى أجسادنا الثابتة كما قرأت فكرك يوما؟
مذ ذاك، تأكد لي مرة أخرى أن اللغة المبدعة ، المنعتقة من عقابيل الماضوية وتأويلات المتفيقهين، سدنة المعابد، هي السبيل إلى تشييد وطن اللغة المتطلعة إلى تغير علائق الحرف والنقطة وعلامات الترقيم ، فتغدو وعي الكينونة ، جسرا لوصل ما انقطع ، لترميم الحديث اليومي وضخه صور العبقرية الشعبية وجسارة التحدي، أليست اللغة الشاعرة اليومية التي تتهجى الخرائب المحيطة بنا ، هي الطريق إلى تحرير الإحساس من عبء العناصر كلها؟
فاطمة عبد القادر
حسنا فعلت.
انك اكبر من مرحلتك ،انك أعلى من زمانك ، وقد طاوعك كل شيء، حاولت بكل ما أوتيت من جسارة أن تعلين حائط الأمل، وتفتحين عيوننا الضريرة على أفق الكلمة العظيمة، ولهذا رحت تفخخين جسد اللغة بذلك الإبداع العذب الساحر، وترجين كتفي القاموس بقوة، يا لها من مهمة شاقة وعسيرة تلك الملقاة أمامك ، فاللغة السوداء الكبيرة كانت تطحن في طريقها الأخضر واليابس، ثمة نهايات مرة، وغروب كاسح كان يلوح في الأفق.
لا معنى لحزمة نقد إضافية، للباقة القراءة، لحفنة الردود، فلا تستجدي النبيلة اللغة ، إنما اللغة ترتسم بشارات وطقوس من فهمها،صححت خطأ مزمنا . هذا قلبك يوزع إلى أجساد كثيرة كي لا تنوء به. مخيلتك تكفي لصور الإبداع كله، لغتك تحتاج إلى عقول اقل تجهما ، ولكن ما ذنب القلب لتحمليه أثقال هذا الشغف، وما ذنب المخيلة لتنهكينها بالمناديل والأغاني، وما ذنب العقول لتعريها فيفتضح مشاعل وفراشات؟
حسنا فعلت.
أنت الهارب المزمن. سقطت الخريطة في القفص فأصابتك لعنة الهروب من الأقفاص، أنت المبدع المزمن، يهرب القلب من قفص الجسد، وتهرب المخيلة من قفص العقل، تبدعين المفردة من إيقاع الرقص وتفرين بها من قفص القاموس، وبالقاموس من حدود اللغة والمخافر المنصوبة عند تخومها، ويكتب عليك أن تقاومين كل هذه الأقفاص، أن تحرري النار من معتقلاتها، والعصافير من سمائها، والمفردات من غرف التحقيق والتعذيب، والخرائط من حبر الاحتلال، يتعب العصفور من مقارعة الأقفاص ، يضع نقطة في أخر السطر وينام.
حسنا فعلت ، أن حطمت الأوثان ، وحططت كما الغمام.
أحلام المغربي
ضبطوك بالجرم المشهود، تنشرين وجع المآسي على حبل الزغاريد، ضبطوك متلبسةً بإنسانيتك الرحبة، ضبطوك تكاتبين طيور الأطلس، ضبطوا مناديلك تحرض موج بحر طنجة، خافوا أن يعلن البحر انتفاضته، ضبطوك متسللةً إلى الضمائر، وكتب الأحلام، ضبطوا الحمام يروج لحبرك السري، ضبطوك تزرعين الياسمين ليلا في واحتنا، وتدسين الياسمين في قهوتنا الصباحية، ضبطوك تهربين المواويل والقناديل، وضبطوا حلمك في ليلة عرسه، أقلقت القلق، وغسلت روح الغسق.
اختصرت أحلامنا ، واختصرت آلامنا ، وآلام أغانيك، عرفت ومثلك يعرف أن الليل يزداد قتامة ، والمضامين تزداد قسوة، لوحت وذهبت. قدر الينابيع أن تنفجر ، قدر الغيوم أن تنهمر ، قدر الأنهار أن تلقي بنفسها في البحر، هذا حجر الأغاني يتغطى بالتراب، ينزع نجمة ليراقب الآتي ، أنت حلمنا ، وأنت أملنا من الوريد إلى الوريد، تتدربين كل صباح على تجديد الحلم والاستمرار.
أماني عواد
اختصرت أهوال العيش وأهوال اللغة . لكن دعيني أعاتبك ، فنادرا ما ترتكب امة أغنية بهذا البهاء كما أنت، لماذا دفعت اللغة إلى آخر مداها ، لماذا تركتنا نرتاب فيما نكتب .
سجلي: خسرنا لغاتنا بحضور لغتك ، فلا تعتذري عما اقترفت.
سأعتذر لك عن بعض ضحالتي اللغوية ، وبعض الافتقار إلى الأصالة، لا استطيع أن اكتب عنك إلا بكلمات مضمخة بعطر لغتك ، موشومة برسمها، مستعيرا استعاراتك، ومتكأ على مجازك، صحيح انه بعدما فاض نهرك، وانتحر في بحر اللغة، أصبحت الكلمات والمعاني جزءا من هذا البحر وملكا لنا.
لكن فيضك كان كبيرا ، وكان إيقاعه خاصا ، ونكهته مميزة، بحيث لا يستطيع السابح فيه، إلا أن يعرف ملامح لغتك، وان يستشعر رائحة النهر في البحر، وان يرى ألق النبع، من الصعب على نفسي أن تتعرف على نفسها، وعلى لغتي أن تجد مفرداتها، من دون أن تتورط في عالم المعاني الذي صنعته بقلم وورقة.
لقد وسعت هامش المناورة بين اللغوي والمعنوي ، فأعطيتنا فسحة للحركة، ومنطقة للكر والفر، منطقة محررة من القوالب والأنساق، نرفع فيها علما لأفق اللغة، ونفرح ساعة وننبهر بالجمال، بين إبداع وأخر كنا ندخل حالة انتظار، نسأل أنفسنا إلى أي قمة جديدة سوف تأخذينا هذه المرة، لقد كذب الأطلس الذي أقنعنا بالسبع القارات، إذ اكتشفتِ قارات أخرى أكثر جمالا ، ومحوت الفرق اللغوي بين الاكتشاف والاختراع.
كاملة بدرانة
يتزاحم النثر والشعر عليك ، وسيغار الشعر من النثر، ليس يدانيك الشعر ، وبين هذا وذاك ، تغدين الصوت والرمز، ألم تقولي لنا أن النثر هو حقل الشعر المفتوح، أليس الشعر نثر الورد على الليل كي يضيء.
لقد تدربت على فتح الاستعارة لغياب يحضر وحضور يغيب بتلقائية مطيعة وتعرف أن المعنى في الشعر يتكون من حركة المعنى في إيقاع يتطلع فيه النثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى ارستقراطية النثر، انه القصد من المعنى ، غموض سخي ، غموض يأخذنا إلى ارستقراطية النثر مقابل رعوية الشعر.
انه فهم جمالي ، فهل أجمل من النثر وإدهاشه ؟! هكذا يكون إيقاع المعنى تسحبين القارئ إلى كلماتك وعباراتك ونصك وخصوصيتك وبرج أحلامك.
لدي حنين نحو النثر ، وأتمنى أن افشل شعريا ، ذاك أني اعتبر أن فيه أحيانا شعرية محققة ، هكذا علمتنا .
يتمرد إبداعك على التصنيفات ، انه بحث عن الجمالية سواء في الإيقاع أو في العبارات أو المعاني، تخرجين على دائرة التعليب المسبقة.
يقول الإبداع لك : سأصفك كما أشاء وستكونين لي دوما، وتردين : سأجعلك دوما تشتهي أن تكون ما اكتبه عنك ، هذه المراودة الطويلة والشاقة أنهكت الإبداع وأنهكتك، فقررتما عقد هدنة طويلة داخل الأبد ، نعلم انك استطعت أن تربحي لعبة الإغواء هذه ، فقد دخلت الإبداع في الصورة التي رسمتها للإبداع ، ولم يعد يستطيع أن يكون الإبداع إلا مجرد إبداع أليف ومجمل وعادي ومألوف ومأهول بالمجازات والاستعارات ، صار الإبداع طفلا بين يديك تلتقينه بالبسيط والمألوف ، ولم يعد يملك من مكان سوى الذاكرة انه كان عصيا يوما ما.
لم تتركي لنا ما نقوله فيك وعنك، لقد قلت ذاتك بكل تحولاتها، وزهوها ، تكوينها ، عشقها ، أشواقها ، رغبتنا في الحياة التي جعلتها حياتين، ثلاث حيوات أو أربعا، بل خمسا ، بل ألفا .. فكلما كنا نحس بقرب نهايتنا ابتدعت لنا حياة جديدة ونسجتها أدبا وأقمارا وعشاقا وباقات ورد ، وسخرية من النهاية واستغراقا في تحديها ثم الاعتذار منك ، فإذا ما قبلتِ الاعتذار انقلبتِ تصفين الحياة بكل ما فيها من طقوس ، انتهاء بالانحناء الذي سيكيله لك الجمال!!
الواحة
لا أظنني أقول جديدا عندما أصفكم بالمبدعين العظام، قولي ذلك، بما فيه من تكرار وتحنيط، لا يعدو كونه تقرير واقع يشهد مسيرتكم الإبداعية ، لعل الجديد هنا هو أن كلمة " عظام " تعود لتمتلئ بالمعنى ، والنبض، والحرارة، لتتألق مثل إبداعكم الذي انتشلنا من الخطابة ، والحماسة ، والوعيد ، ليلقي بنا في غمار المعنى ، والتفتح ، وجنون الربيع.
لستم مجرد مبدعين كبارا تمثلون صوتا ، أو جيلا ، أو مرحلة وحسب، بل كنتم نسيجا لوحدكم، جيلا لوحدكم ، ومرحلة لوحدكم.. ما يدعو إلى الإفصاح عن هذا اليقين ، لا يحده الحب ، والإعجاب ، والنظرة النقدية المتسرعة، بل هو قائم على رؤية ما في إبداعكم من تجدد خلاق يشق دروبه في غابات بكر تشد المتلقي إلى أضوائها ولظاها ، ليعمل على / أو ليشارك في خلق ذائقة إبداعية واعية، والارتقاء بنا من العطالة إلى الفعل، من تشغيل الاسطوانة ، إلى متعة الاكتشاف ، والخلق والنمو ، ذلك هاجسكم ، أصاحب الموهبة الفذة والثقافة الواسعة ، يتمثل في بحث المتبصر ، وتجريب المهموم بالإبداع، والتطلع إلى أفاق إبداعية قصية وعصية، واستخدام أدوات تعبيرية جديدة بين إبداع وإبداع .
اعتذر من الجميع وألوم نفسي إن لم أكن قد قاربت من إيفائكم حقكم .
فتقبلوا مني كل الاحترام