كان يومًا غائمًا تعتلي قبته مُزن توشك على البكاء. حتى في يوم كهذا لا يتردد "كريم " في أن يعرج إلى دكان العم جابر بعد المدرسة فاللقاء اليومي بالعم جابر يعني الكثير لصبيٍ يضيق ذرعًا بمهاترات أقرانه. بضع كلمات من العم جابر كفيلة في نظره بتعويضه دروس قلما يتلقاها في مدرسته التي تقع قُبالة الدكان , ابتسامته , و تربيتته على كتفهِ و تِلك الحلوى التي يكافئه بها من حين لآخر أمورٌ يُعقِب فَقدها وحشةً في قلب اليتيم الصغير.
دخل كريم الدكان بينما العم جابر مشغول بترتيب بضاعة جديدة مَلأَ بها بضعة أرفف كانت شبه خالية .ما إن رأى العم جابر كريم حتى شيعهُ بابتسامة وقورة أظهرت الخطوط الدقيقة حول عيناه اللتان توهجتا برؤية الصغير.
-السلام عليكم
-أهلاً كريم ...وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- بضاعة جديدة! أُساعدك؟ قالها كريم وهو يهم بخلع حقيبته.
-لا .. محروس هنا . سأفرغ عما قليل. كيف المدرسة اليوم؟
- الحمدالله . اليوم أتممت حفظ سورة المعارج.
- ما شاء الله ... هل لي بسماعها؟ .
أخذ كريم يتلو الآيات بصوت رخيم وعيناه تحطان على العم جابر الذي أخذ يكمل ترتيب بقية البضاعة. ما إن وصل لنهاية الآيات حتى التفت العم وقد علت ابتسامة رضىً محياه.
- لا بد من مكافأة جديدة تليق بهذه القراءة . لدي حلوى لن تجد لها مثيل!
توهجت عينا الصغير بكلماته المشجعة و بادله الإبتسام.
على ناصية الشارع يقف "غريب "بثيابه الرثة و سحنته التي لونتها الشمس. إنه لا يفتر يتسول المارة و يمازح الصبية الذين كثيرًا ما يكافئونه بالإستهزاء والسخرية . جلَّ ما يهم غريب وجبة عشاء وحيدة تسكت جوعه في نهاية يومه الحافل بالكر والفر في الطرقات.
جلس الصبي على ناصية الدكان يتذوق مكافأته, و يراقب بصمت الرجل الذي يتحرك بخفةٍ من مكانٍ لآخر حتى دخل الدكان . فجأة علت جلبة اختلط فيها صوتان: صوت العم جابر الغاضب وصوت غريب المثقل بالتوسل والرجاء.
-أقسم لك بأني وضعتها هنا لقد أعطيتك إيها..
- لا تقسم!
_لقد وضعتها هنا حينما جاءت الشاحنة الصغيرة ...
_قلت لك اخرج أو ستخرجك العصا !
_ لقد قلت لي أن أعود لآخذ ..
هنا أخرج العم جابر عصًا غليظة .. فانكمش الآخر و أطرق رأسه بعينين دامعتين .انسل غريب خارج الدكان وهو يتمتم بصوت خفيض بكلام غير مفهوم.
لأول مرة يرى كريم العم جابر بهذه القسوة , فانزوى خلف عارض الدكان المليء بالملصقات الدعائية .
كان العم جابر قد جلس على أحد أكياس الشعير وهو يشتم و يسب غريب. بعد أن سكت عنه الغضب أخرج ورقة نقدية يتأملها و هو يوجه حديثه لمحروس.
- هذا الأبلة !كم مرة أطعمته و سقيته ؟! الآن جاء ليحاسبني!
لم يرد محروس
_ترى من يضيع مبلغ كهذا على غريب؟
تناثرت قطع الحلوى التي كان يمسك بها كريم على مدخل الدكان . شعر أن مذاقها في فمه قد امتزج بدموع الرجل الذى ولى للتو منكسرًا و بطعم مرارة وحشة أيام ستأتي .كان هطول المطر محفزًا لكريم لأن يسرع في العودة للمنزل وفي رأسه صوت يتكرر( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ)