جماليات الماضي في أسلوب القاضي
إذا أردنا الحديث عن القصة القصيرة ، كفن فرض نفسه بقوة ، وأصبح له مئات بل آلاف الكتاب في كل مكان ، بين هاوٍ أو مستسهل بظنه للنثر بعيداً عن ميزان الشعر وقافيته ، أو مبدع حقيقي يعرف كيف يكتب القصة فان الحديث يدفعنا إلى تقنيات الكتابة ، والتميز في الطرح ، والجودة في الأداء ، والإصابة في المضمون .
وإذا أردنا أن نتحدث عن الأديب المصري الكبير : حسام القاضي ، ككاتب للقصة القصيرة ، وأنموذج لكتاب القصة الواعين المخلصين لأمانة الكلمة ، فإننا نقف أمام جملة من أعماله مبهورين لجودة الأسلوب وروعة الطرح عبر خصائص اختص بها وميزت ما يكتب بأدوات أجاد وأحسن في استخدامها :
1- العنوان :
" من عناصر القصة القصيرة، العنوان. ويمثل العنوان عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الدلالة في القصة، وجزءاً من أجزاء إستراتيجية أي نص أدبي. وتتنوع العناوين، من حيث وظيفتها في القصة، فثمة عناوين تحيل إلى مضمون القصة، أو تُسْتَمَدّ من مغزاها، وعناوين لها طبيعة إيحائية، وعناوين لها وظيفة تناصية، وعناوين لها طبيعة استعارية، وعناوين يؤتى بها لتشوش الأفكار. وهذه الوظيفة الأخيرة للعنوان هي التي أرادها (امبرتو ايكو). ومن أمثلة هذا العنوان مثلاً عنوان قصة قصيرة جداً لعدنان كنفاني نصه: (مصير العظماء)، ورد في مجموعة "بروق" (1)
"ومهما يكن الشأن، فإن القصة القصيرة العادية يحسن بها أن تجمع حسن العرض إلى نمو الحدث إلى المشهدية المسرحية، كما يتوخى من كاتبها أن يحكم بنائه ويحذق حبكته، ويختار مفرداته دونما ترخص في الفصحى ودونما إغراق في التقعر، مراعياً اللغة الوسطى، وذلك لأن تضحيته بما سبق، أو انحرافه إلى لغة شاعرية مفعمة بالتأنق والزخرف والصنعة، يجعله بعيداً عن السمت المقصود، وقريباً من فنون أخرى، قد لا تحتمل القصة أعباءها. ولا بد أخيراً من التكثيف والتركيز اللذين يجعلان من القصة القصيرة لقطة سينمائية أو قطعة من نسيج أو ومضة من ضوء، تكتنز المعنى والمتعة معاً." (2)
أهم ما يميز القص في أسلوب القاضي بدايةً العنوان ، الذي يأتي ملفتاً يعبر عن القصة لكنه لا يفضحها ، يجذب الأنظار مثيراً يختصر القصة كلها دون أن يشي بما فيها .
" ولكنه حي " جاء العنوان هنا بنفس الجملة القصيرة التي انتهى بها ذات النص " ولكنه حي "
اختصر جواب تساؤلات هذه الأم التي تموت وهي تلد طفلها الذي جاء نتيجة اغتصاب قاس وتعذيب مضنٍ من سجاني الحرية ومغتصبي حقوق الإنسان ، جاء الطفل نازفاً متوجعاً كحال أمه ، يبحث له عن أب لا يعرفه ، وهوية ربما لم يدركها ، بينما ينشغل الشيوخ بكل شيء إلا هو ، إلا هم الأمة النازف ، الذي اغتصب واستبيحت محارمه ، ولم يكن هناك معتصم ، ولم تصل الصيحة إلى أحد ، لأن آذانهم مغلقة ، وان سمعوا ، فإنهم لن يحركوا ساكناً ..
لكنه حي .. سيأتي للدنيا رغم كل شيء ، مشوهاً أو مريضاً ، لكنه سيكبر ، وربما يتعلم كل شيء ، ويعرف أن الفضيلة أمه ، وأن مغتصبي أمه فعلوا كل شيء فما انتصروا ، لأنه رغم كل شيء .. بقي حياً ..
وهكذا ، نجد العنوان ملفتاً أكثر في " نفس ما أرادوا "
حين يبرز القاص التشابه بين اغتصاب بالإكراه يحدث لبطلته ، يستنكره المجتمع والناس ويمنعه القانون والدين ، وبين اغتصاب بإرادة الأهل والمجتمع وتأييد القانون ، حين تتزوج الفتاة من رجل قاس لا تحبه ، يريد الحصول على كل شيء بنفس العنف الذي واجهته سابقاً ، بنفس الوسيلة ولنفس الغاية .. الحصول على جسدها دون أي اعتبار لمشاعرها .
ثم يتكرر ذات الإبداع في العنوان في " حقيبة متربة وجورب أبيض " و " بيتزا " و " ربطة عنق "
2 - البداية :
"من عناصر القصة القصيرة البداية والنهاية. ومن زمن بعيد رأى (ادغار آلان بو) الذي وصف بأنه أبو القصة القصيرة، أن البداية الناجحة هي التي تحدد نجاح القصة أو إخفاقها. وكذلك كان (يحيى حقي)، وهو من هو في فن القص، يرى أن القصة الجيدة هي ذات مقدمة جيدة محذوفة، لأن هذا الحذف يدفع بالقارئ إلى الإحساس بأنه إزاء عمل حي وجو فني متكامل (انظر مقدمة عنتر وجولييت، لحقي ص 4). بيد أن هذا الحكم إنْ صحَّ على بعض القصص، فقد لا يصح على قصص أخرى، ذلك لأن للقصة مستلزمات أخرى لا بد من توافرها لتنجح وتمتع وتعني." (3)
ومن خلال قراءتنا لأعمال القاضي نجد أنه تميز بالبداية القوية المدهشة في نصوصه ،
أنظر البداية في بيتزا :" تمنعه الحمى من القفز من فراشه لدى سماعه النبأ ، حاول الوقوف على قدميه سقط محدثادويا "(4)
فمن هذا الرجل ، وأي أمر ذاك الذي يجعله يحاول القفز حين يسمعه .. ؟
تلك أسئلة تبدأ بها القصة بما يميز الأسلوب الذي يشد القارئ منذ أول وهلة .
وهكذا نجد البداية المدهشة ذاتها ، في " ربطة عنق :
"آسف جدا لن تستطيع الدخول .
لم ؟ معي تذكرتي و …." (5)
ثم البداية المدهشة في " مرايا "
"تسلل الشيب إلى فوديه وهو على حاله يبحث وسط الحطام"(6)
وهذه وحدها استوقفتني وشدتني منذ الجملة الأولى ، التساؤلات التي تجعل القصة القصيرة مدهشة إلى أبعد مدى .. أي حطام ذاك الذي يبحث فيه حتى يتسلل الشيب إلى فوديه ..كم بقي هناك ؟ عشر سنين ، أكثر ... ربما
3. القفلة / المفارقة:
من أساسيات ما تعلمناه في فن القصة القصيرة أن تكون القفلة مدهشة ، أن تحمل المفارقة ، أن تكون صادمة لكي تكون مبدعة ويبقى لها الأثر الطويل .
لكن المفارقة تبدو من خلال ملامح النص ، وليس شرطاً أن نعتمد الأسلوب الذي يجعل القصة تسير كلها في اتجاه ما ليختلف الأمر كله في آخر جملة ، ربما مثل أسلوب جريفث للإنقاذ في آخر لحظة .. آخر ثانية .
" أما النهاية، ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة، وهي اللمسة الأخيرة التي تمنح الكشف عن الشخصية، أو السلوك، أو المعنى. وفيها المفاجأة التي قد تثير السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل ... "
" وتعددت أشكال النهايات في القصة القصيرة، وأمكن للنقاد أن يروا فيها ستة أنواع من النهايات، هي: النهاية الواضحة، وفيها تحل المشكلة دون تعقيدات تذكر. والنهاية الإشكالية، وفيها تبقى المشكلة دون حل. والنهاية المعضلة، وفيها يمكن أن يكون الحل من خلال مشاركة القارئ في التوقع، دون أن يكون هذا الحل هو الحل المثالي الوحيد. والنهاية الواعدة، وفيها يتم التنويه بمخارج كثيرة دون ذكرها صراحة. والنهاية المقلوبة، وفيها يتخذ البطل موقفاً مناقضاً لما كان عليه في البداية، فإذا كان يكره شخصاً في البداية، ينتهي به الأمر إلى أن يحبه في النهاية. والنهاية المفاجئة، وفيها يفاجئ السارد القارئ بحل غير متوقع-(أنظر القصة القصيرة- النظرية والتقنية ، لامبرت ترجمة علي منوفي ص 135)... " (7)
التزم القاضي بأن تظهر ملامح المفارقة من خلال النص ، لتتكشف أخيراً في نهايته ، من خلال قصة " 41 بدون لون " مثلاً
يقودنا الحوار تدريجياً للتساؤل دون أن نكشف الحقيقة كاملة ، عن هذا الجريء الذي يواجه البطل ، يتمرد عليه ، بل ويقرر الانفصال عنه ، لنكتشف عبر ملامح النص أن هذا المتمرد ما هو إلا حذاء مقاس 41
ولا يحاول الكاتب أن يحتفظ بالأمر كمفاجأة تبدو فقط من خلال الجملة الأخيرة ، إنما تتكشف الأمور تلقائياً من خلال تطور الحوار ذاته :
يبدأ التلميح بهذه العبارة :
" لا تغالط نفسك حاول أن تتخيل نفسك سائرا في الطريق مكتمل الأناقة حافي القدمين"(8)
ثم يصبح الأمر واضحاً جداً ، حين يقول :
" أي كثير هذا ؟! أتسمي هذه الأشياء الخفيفة المهترئة أحذية .. مرة حذاء كاوتشوك منباتا ومرة أخرى ولا داعي لأن أقول فأنت تعلم جيدا وأخيرا هذا الحذاء الخفيف من تلكالماركة المسماة ْ{ كوتشي } " (9)
ثم تظهر المفارقة الساخرة المؤلمة هنا :
" لماذا !! أنسيت أنك مقاس 41 بينما مقاسي الفعلي 43 .. ألا تعلم أنك بصغر مقاسك هذاتضطرني للسير في الطريق التي تحددها أنت لا أنا .. من في الدنيا يتصور أن يسيَرالحذاء مرتديه . "(10)
أي حذاء يسير مرتديه ..هو الحذاء الذي يملي شروطه إذن ، هو الحذاء الذي يستحق أن تكون قفلة قصته السمع والطاعة له ، حين يخالف مرتديه ، فقط لكي يخالفه :
"والآن إلى أين تذهب ؟
ـــ كنت ذاهبا جهة اليسار لأمر ما .
ـــ إذن لليمين سر .
ــ سمعا وطاعة" (11)
المفارقة تظهر في بداية النص هذه المرة في : حقيبة متربة وجورب أبيض "
"بخطوات حذرة اتجه صوبها، تبدت أمامه كاملة، ثنت ساقها اليمنى فانزاح الغطاء أكثر،أمسك طرف الغطاء وهم بـ.... ولكنه خشي أن... تركه وتراجع ، جثا على ركبتيه يتأملها"( 12)
فتوحي لكل من يقرأها بعكس الواقع الذي يتجلى بعد لحظات ، حين نكتشف أن هذه الفتاة ابنته .
4- الفلاش باك :
استخدم الكاتب أسلوب الاسترجاع اللحظي للأحداث أو الفلاش باك ، بطريقة سلسة دون أن يكسر السرد المنطقي للأحداث أو يضر بتسلسلها ، كان هذا واضحاً جداً في " ربطة عنق " فالرجل/البطل يقف أمام الموظف في المطار ، ثم يبدأ تداعي الأحداث :
"أزيز الطائرات فوق رأسه .. قنابل متساقطة .. شظايا متطايرة في كل اتجاه .. رائحة اللحم البشري المحترق تزكم الأنوف . دُمرت كتيبته بالكامل . مات كل شيء إلا هو وجهاز اللاسلكي"(13)
ثم يستفيق البطل من ذكرياته أمام الحدث الذي يشكل الصدمة للبطل/والقارئ معاً :
"وأمام المرآة كانت هناك حقيبة وجواز سفر ملقيين في إهمال واضح "(14)
وبنفس الطريقة ، وعندما كان البطل أمام ابنته النائمة في " حقيبة متربة وجورب أبيض " يبدأ الاسترجاع اللحظي لحدث قريب ، قبل عودته إلى المنزل :
"لاتنس أني رئيسك في العمل.ـ لا أحني رأسي إلا لله .ـ رأسك الحجري هذا هو ما أطاح بك.ـ لا يصح إلا الصحيح .ـ إذاً ارحل..ولا تنس الحقيبة "(15)
الأجمل –في ظني – كان الدمج بين الزمنين ، والحدثين ، والذاكرتين ، القريبة والبعيدة في قصة مبدعنا " نفس ما أرادوا "
انظر معي هذا الإبداع :
" هاجمها.. طعنته .. صرخ فضحكت .. رأت أحدهم يسقط .. طعنته مرة أخرى .. صرخ فضحكت وسقط آخر.. طعنته مرة ثالثة .. سقط ثالث .. استمرت في طعنه مرات ومرات .. حتى سقطوا جميعا وسط ضحكاتها المجنونة "(16)
فالبطلة هنا كانت تراهم فيه وتطعنه وكأنها تطعنهم ، رأت الزمنين أمامها ، والحدثين ، وذات الشخوص ، من حاولوا اغتصابها أول مرة ، ومن يحاول اغتصابها الآن ، فكان الدمج بطريقة مذهلة ، جعلت من القفلة إبداع لا حدود له .
5- أسلوب السرد :
"هو الكيفية التي تروى بها القصة، عن طريق القناة نفسها، أو ما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الأخر متعلق بالقصة ذاتها. ويمكن النظر إلى الأسلوب من ثلاث زوايا مختلفة، انطلاقا مما أورده الناقد عدنان بن زريل؛ في كتابه النص والأسلوبية:
1- (من زاوية المتكلم)؛ أي الباث للخطاب اللغوي؛ "الأسلوب هو الكاشف عن فكر صاحبه، ونفسيته. يقول (أفلاطون): كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه. ويقول (بوفون): الأسلوب هو الإنسان نفسه. ويقول (جوته): الأسلوب هو مبدأ التركيب النشط، والرفيع، الذي يتكمن به الكاتبُ النفاد إلى الشكل الداخلي للغته، والكشف عنه".
2- (من زاوية المخاطب)؛ أي المتلقي للخطاب اللغوي؛ "الأسلوب ضغط مسلّط على المتخاطبين، وأن التأثير الناجم عنه يعبر إلى الإقناع، أو الإمتاع. يقول (ستاندال): الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه. ويقول (ريفاتير): الأسلوب هو البروز؛ الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الجمل، على انتباه القارئ، فاللغة تعبر، والأسلوب يبرز".
3- و(من زاوية الخطاب)؛ "الأسلوب هو الطاقة التعبيرية، الناجمة عن الاختيارات اللغوية. وقد حصر (شارل بالي)، مدلول الأسلوب، في تفجرّ طاقات التعبير الكامنة في اللغة. ويعرّف (ماروزو) الأسلوب بأنه: اختيار الكاتب، ما من شأنه أن يخرج بالعبارة، من حالة الحياد اللغوي، إلى خطاب متميز بنفسه. ويعرفه (بييرغيرو): بأنه مظهر القول، الناجم عن اختيار وسائل التعبير، التي تحددها طبيعة الشخص المتكلم، أو الكاتب، ومقاصده". (17)
كان الأسلوب في قصص القاضي حوارياً بالكامل في قصة واحدة للكاتب هي " 41 بدون لون "
بينما لم أجد أي قصة للكاتب بأسلوب الراوي الداخلي أو المخاطب ، كذلك لم أجد الكثير من المونولوج الداخلي .
بينما اعتمد الكاتب في جميع قصصه الأخرى على أسلوب السرد الموضوعي أو كما يسمى " الراوي الخارجي " أو " الراوي العليم " أو " المشاهد الثالث "
فالراوي هنا ، وفي جميع قصص الكاتب محل الدراسة باستثناء "41 بدون لون " كان طرف خارجي ، محايد ، لا يتدخل برأيه ، والكاتب هنا كمحرك العرائس ، لا يظهر إطلاقا أمامنا ، بينما بصماته في كل مكان .
واستخدام الأفعال المضارعة ، دليل دائماً على استخدام الأسلوب الموضوعي :
"تسلل الشيب إلى فوديه" مرايا
"تهدجت أنفاسه" الحطام
"تقبض عليه بشدة" ولكنه حي
6. التحليل النفسي :
" لعلَّ أبرز مراحل التطور الروائي في العصر الحديث يبدو في تلك النوعية التي اتجهتْ إلى تحليل النفس البشرية، والغوص إلى أعمق أعماق الإنسان، بحثا عن الأدواء والعِلل الخبِيئة الكامنة في النفس البشرية، بُغْية إصلاحها، وسعْيًا وراء إنقاذها.. هذا ما نجِده لَدَى ( دستوفسكي ) في رائعته " الإخوة كارامازوف " وتَبْدُو وَحْدَةُ القصة فيها ـ كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال ـ في ظاهرة " القلق " الذي يحاصر قُلُوبَ جميع أفراد الأسرة ( أسرة كارامازوف ) وهو : قلقٌ فكريّ… ومن ثَمَّ فالقصة تحليلٌ دقيقٌ للنَّفْسِ الإنسانية، في نوازعها الخفية، وفيها يشْرَحُ المؤلفُ الأفكارَ التي تُسَاوِر كُلَّ قلب، دُونَ أن يستطيع، صراحة مواجهتها، على حين هي تصطرع دائما في كل نفْس، وفي هذا الصراع يتجلَّى بؤسُ الإنسان الذي يَدْفَعُهُ إلى الهاوية، ولكنّ الإنسان ـ مهما بَدَا خبيثًا شرِّيرًا ـ له مع ذلك باطِنُه الطيّب الذي يتراءى في أشدّ المواقف يأسًا (18) ".
كما يمكن أن نَجِد نموذجًا آخر للتحليل النفسي الرائع، في تلك الرواية الملحمية " يوليسيس " ـ لجيمس جويس ـ حيث نجِدُ فيها خلاصةً وافيةً قويَّةً لكُلِّ ما عاناه الفكرُ الإنسانيُّ بين الحربين العالميتين، وموجز ما انتهى إليه التحليل لِطَوِيَّةِ النفس الإنسانية، والحديث النفسيّ فيها يكشِفُ عن صَدَى التجارب الإنسانية المضطربة في الفكر المكبوت، ويُنَاظِرُ المؤلفُ بين حوادث قصته التي تدُور في (إيرلاندا ) وبين حوادث ( الأوديسا ).. (19)..
ولعل من أبرز القصص للكاتب حسام القاضي والتي يبرز فيها الجانب نفسي ويطغى حتى على الحدث ، هي قصة " عملية جراحية " فهذا الرجل / الغارق في الصراع مع نفسه حتى الثمالة / على وشك إجراء جراحة هامة ، تبدو معالمها الغريبة في الاتضاح منذ اللحظة الأولى :
(عجبا كيف تململ الرأس على الرغم من كمية المخدر الموضعي التي رشها كما حددها الطب) (20)
ثم الجو الذي أحاط زيارته للطبيب ، كان الكاتب يعني كل كلمة ، حين رأى كتاب أفلاطون ، بغلافه السميك يتلاعب به الطبيب/ كما يتلاعب بأعصاب مرضاه .
ثم تبدأ ملامح المشكلة تتضح ، لهذا المريض الغريب ، الذي يشكو من جلد شفاف لا يخفي خلفه انفعالاته ، رغباته ، وآراءه حول الناس ..
باختصار ، كانت مشكلة هذا الرجل هي : الصدق .
يدور بنا الكاتب ، في رحلة حام حولها شبح أرسطو وسارتر ، بحثاً عن ذات مفقودة ، ورغبة في الحصول على إنسان بدون إنسانية ، وجه بدون ملامح ، قناع يستر الوجه فيصبح كما كل شيء في الحياة ، ماسخاً ، مقنَّعاً ، منافقاً .
هذه الشخصية الحائرة ، المتقلبة المزاج ، الباحثة عن هويتها ، نجدها أيضاً في قصة الكاتب " مرايا "
"كان يهم بحلاقة لحيته عندما شعر بضبابية المرآة .. لم يبال أرجع الأمر إلى ندىالبكور وزفير التنفس .. أتم حلاقته معتمدا على حفظه لتضاريس وجهه ونسى الأمر . بعدها و في حانوت الحلاق كانت صدمته .. لم يشأ أن يلحظ ذهوله فأومأ برأسه موافقاعلى جودة الحلاقة وأسرع بالخروج .. أراد أن يتيقن من الأمر فتمهل أمام واجهاتالمحلات الزجاجية ينظر ويدقق حتى تأكد من حقيقة الأمر .. هل وهن بصره إلى هذا الحد؟ ولكن إذا كان كذلك فكيف يرى أشياء كثيرة وبوضوح .. شئ واحد لا يراه لكنه أهم منأي شئ سواه" (21)
هنا يقودنا الكاتب عبر رحلة الشك والحيرة ، وانعدام الهوية ، بحثاً عن الذات ، ورغبة في كسر حالة الجمود / الضياع ، التي يعيشها البطل ، رمزية تشير إلى واقع معاصر نحياه ونشعر به كل يوم .
فمهمة هذا الحائر كانت البحث عن صورته في المرآة ، محاولة إيجاد أي شيء ، أي قطعة زجاج ، أو مرآة هنا أو هناك ، يستطيع أن يرى فيها نفسه .
كادت القصة أن تنتهي دون بارقة أمل ، في أن يجد هذا الشخص هويته ، لولا أن الكاتب فضل أخيراً أن يتركها مفتوحة على كل احتمال ، حين انتهت كما بدأت ، ببحثه داخل الركام ، لا يمل ، بحثاً عن شيء يصلح لهذه المهمة المستحيلة .
ثم أن ذات النظرة المتوغلة في باطن النفس الإنسانية ، والعلاقات التي تحكم الناس ، وتناقضاتها ، نجدها في قصة الكاتب : الحطام
"كم من حطام صنعه ورفعه بنفسه إلى مصاف الآلهة .. يقدره أولا , ثم يحبه .. فيجله .. فيرفعه إلى تلك المكانة وعندئذ .. عندئذ فقط يتحول إلى تمثال ينظر إليه من عليائهببرود واحتقار .. لكنه كان دائما يصبر عليه وعلى غطرسته .. بل ربما توجه إلى السماءبدعاء حار له .. ويصبر .. وصبر لكنه أبدا لا يستسلم .. فاللحظة آتية .. آتية لا ريبفيها .. عندها يهب فجأة قابضا على معوله بادئا في تحطيمه لا يحول بينهما حائل" (22)
هنا البطل ، يمر بحالة مزاجية مشابهة لبطلي القصتين السابقتين ، في صراع داخلي محموم ، ولكن لهدف يختلف هذه المرة ، فكم من أناس نحترمهم ، ونعاملهم كما يجب ، يقابلونا بالازدراء والتحقير ، ويكون جزاء الإحسان نكران الجميل ..
شبه الكاتب هؤلاء الناس بتماثيل صنعها ، ثم أنه بدأ يحطمها بنفسه ، متلذذاً بتكسيرها بمعوله ، بالتخلص من كل شيء يقربه منها ، رغم أنه وجد نفسه يتحول إلى واحداً منها ، بعينين من حجارة ، ونظرة جامدة ، فكان لزاماً عليه أن يحطم نفسه ، وأن يخرج من داخله منتصراً ..
" عيناه اختفى منهما ذلك البريق المحبب ، وصارتا كرتين من حجارة لا إحساس فيهما .. يراهما أحيانا وكأنهما شواظ من نار .. كم كانتا وديعتين عيناه ..
إلى عينيه نظرفي تحد وقام ممسكا بمعوله وصوبه إلى وجهه في ضربة قوية "(23)
وهكذا ، عشنا في رحلة ممتعة مع الكاتب المبدع : حسام القاضي ، عبر أسلوب جميل أدرك جماليات القص فغاص فيها حتى الثمالة ، ميزه دائماً متابعته لقضايا الأمة ، وحرصه عليها .
شكراً للأستاذ حسام وأرجو أن أكون قد وفقت في نقل رؤية صغيرة لإبداعات كاتبنا الكبير .
كل الود والحب .
أحمد عيسى
غزة
1) د.عادل فريحات : النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سوريا (ص 16)
2) د.عادل فريحات : النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سوريا (ص 17)
3) د.عادل فريحات : النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سوريا (ص 15)
4) نفس ما أرادوا -للكاتب
5) ربطة عنق -للكاتب
6) مرايا -للكاتب
7) د.عادل فريحات : النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سوريا (ص 16)
8) 41 بدون لون - للكاتب
9) السابق
10) نفسه
11) نفسه
12) حقيبة متربة وجورب أبيض - للكاتب
13) ربطة عنق-للكاتب
14) السابق
15) حقيبة متربة وجورب أبيض -للكاتب
16) نفس ما أرادوا- للكاتب
17) محمد بلوافي : السرد والأسلوب ، ديوان العرب
18) محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث، ص622
19) المرجع السابق، ص593
20) عملية جراحية -للكاتب
21) مرايا - للكاتب
22) الحطام –للكاتب
23) السابق