تحية أخي الفاضل رافت على مروركم الكريم .. والموضوع منسوب لصاحبه الأستاذ يسار الحباشنة حفظه الله تعالى.
الموضوع به من العمق والإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، يقعُ فيها الأفراد والجماعات وخصوصاً في عصرنا وزماننا.
وهي السّعي نحو النتيجة وتحقيقها بأيّ وسيلة كانت، وتخطّي الحدود والسّنن والتدريج ، ونسيان أدوات النّجاح من صبر وتدرّج وحكمة وأخلاق والتخطيط الدّقيق والإعداد المتواصل وغير ذلك من أدوات الإعداد والنّجاح.
سبّب ذلك كوارث كبرى في المجتمعات المسلمة والعربية، بسبب نقص هذا الفقه، وقلّة الصّدق في التوجّه .. فجرّ ذلك العاملين في حقل الدعوة والمنتسبين للعمل الإسلامي إلى مصادمة الواقع وتحميله فوق ما يطيق، فجنوا على أنفسهم أوّلاً وجنوا على مجتمعاتهم وبلدانهم. هذا على مستوى الجماعات ، وكذلك على مستوى الأفراد، فالمشكل موجود وبكثرة ..
فحدّد الأستاذ بدقّة دائرة السّعي البشريّ والجهد الإنسانيّ في دائرتين :
أوّلاً : دائرة التوجّه والإرادة لفعل الخيرات و ما تطمحُ إليه من خير ونية صالحة، مع الصّدق في التوجّه وتحرّي الصّدق، وغربلة النيّة والتوجّه من الهوى والمصالح والأغراض غربلةً يوجبُها طلبُك لوجه الله تعالى سبحانه ورضاه. وهنا التفصيل يطولُ في دائرة الإرادة والتوجّه ومنها ما ذكرتموه في تحديد الهمّة نحو الخير لا الإفساد. وكذا في تفصيل صدق التوجّه. إنّما أشار الأستاذ الى البنود العريضة.
ثانياً : دائرة محاولة العمل والسّعي وعدم اليأس، والتزام العمل والدّاب عليه والسّعي من غير أن تلتفتَ إلى توقيت أو مدى قصير او بعيد تحسبه لتحقيق ما سعيت إليه وما عملت من أجله وإنجاحه بأيّ وسيلة كما فعل الكثيرون وجنوا على الأمّة الكوارث. فهذه معضلة من أشدّ المعضلات.
وإن شئنا ضرب مثال من القرآن، فهو في غضب سيدنا يونس عليه السلام على قومه لمّا لم يؤمنوا به واستعجاله الثمرة او العقاب لهم قبل أن يأتيه الإذن الإلهيّ، أي أنّه اعتمد مقياسه البشريّ ولم يصبر على ما طالبه به الله سبحانه من الدّعوة والصّبر عليها عليه السلام، فلمّا ذهب مغاضباً التقمه الحوت والقصّة معروفة حتى نجا بالتسبيح والاستغفار لله سبحانه وعرف سبب ما وقع فيه، في كونه طالب بالنتائج قبل موعدها الإلهيّ الذي هو سبحانه أعلمُ بموعدها، فالعبدُ مجالُه العمل والسّعي وعدم اليأس والمحاولة وتكرار المحاولة لا المطالبة بالنتائج والنّجاح .. النّجاح يُقصد به هنا رؤية نجاح النتائج وثمارها المرجوّة، فذلك على الله سبحانه.
ومن الأمثلة كذلك على هذه الدائرة الثانية التي أشار إليها الأستاذ الكريم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ:خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَالنَّبِىُّ مَعَهُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ...)) رواه مسلم والبخاري وغيرهما. فعدد الأتباع لا يدلُّ على عدم القيام بالواجب من الأنبياء والرسل عليهم السلام، فقد بلّغوا وهم المعصومون وأدّوا الواجب كأفضل ما يقومُ بالواجب والرسالة والتبليغ أحدٌ، فهم أفضل النّاس والمعادن عليهم السلام، ولكن لأسباب قد تخفى أو قد تُعلم أو قد تكون مركبّة ومعقّدة اختلفت النتائج معهم، فجاء النبي ومعه الرجل وجاء نبي آخر ومعه الرجلان وجاء نبي وليس معه أحد وجاء أنبياء ومعهم أتباع كثر وهكذا ..
فالعبرةُ أنّ العبد مطالب بالعمل والسّعي والصّدق في هذا العمل والسّعي وإخلاص القصد فيه وليس مطالباً بما هو من اختصاص الله تعالى سبحانه من نتائج وتوقيتها وكيفيتها.
فما أشار إليه الأستاذ في الموضوع يعتبرُ تشخيصاً دقيقاً عظيماً عميقاً، بارك الله فيه وزاده الله علما وفهما.
وبوركتم أستاذنا على مروركم المبارك .. تحياتي