ما حدث كان استفتاءاً على شعبية عامل النظافة ومدى تقدير الناس وحبهم له ، لكن ماذا اذا أهينت الزعامات المشروخة والقيادات الوهمية والساعون للشهرة ومحترفو النصب على الجماهير باسم الدين أو الدنيا أو تحت عناوين الاصلاح والتغيير .. الخ ؟
لا قيمة الا للنبل والشعور بأن هناك عمل نافع يستفيد الناس من ورائه ، فما معنى أن يصل أحدهم الى منصب رئيس جمهورية ، وجون كنيدى قال : " ما أحقر وأقذر هذه الوظيفة ؛ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية " ، وقد يتسبب فى تدمير بلاد بأكملها ومآس لا حصر لها للبشر وقد يتسبب فى ظلم وقتل الملايين ، ويا هول مصير رجل كهذا أو شبيه به .
وعلى الرغم من ذلك يتنافسون على المناصب وينفقون الملايين ليصلوا اليها ، ولا أحد يتنافس على تلك الوظيفة المتواضعة ، ولا أحد يتمنى أن يقضى حياته يكنس الشوارع ، وقليلون من يتطوعون لأداء هذه المهمة مقابل أجر زهيد ، بينما الأكثرية تطمع وتتأفف وتفضل جنى الأموال من طريق حرام ولو بخداع البشر وباضافة عاهات جديدة لواقعنا المتخم بالعاهات وأرباع المواهب .
ما نراه مجرد قشرة لواقع يضج بالأحقاد والكراهية والضغائن من أجل الشهرة أو المال ، ولا تتأملوا مشهد سحل القذافى ومشهد على عبدالله صالح أمام منزله المحطم يحمل المايك كأنه مراسل لاحدى الفضائيات وقد كان حليفاً وصديقاً لكل من يقذفه بالنار اليوم ، فهذا كله وغيره قشور لواقع سياسى موبوء بالرداءة والدناءة والأحقاد .
وخلال تجربة لسنوات عايشت بشراً ملونين بآلاف الحيل يمتلكون مئات الأوجه ويخجل الحقد والطمع والتآمر من ممارساتهم ، وهم فى الحقيقة لا يؤدون مهمة واضحة ولا ينجزون مشروعاً متماسكاً بمقدمات منطقية ومؤهلات حقيقية ورؤى واقعية والله وحده أعلم بما يضمرون من نوايا ومقاصد ، لكن على الأقل يظل عامل النظافة نظيفاً من الخداع والتلون وخيانة الأمانة ، فنحن نعرفه واضحاً فى مظهره ومهامه المحددة وانجازه عظيم القيمة الذى لا يتغنى به أحد ولا يكتب فيه أحد قصائد النفاق والمدح ولا ينتظر هو ذلك ، فقد كنس زبالتنا ومضى ليتعشى مع أولاده وزوجته وينام بدون أن يسمع به أحد ، وجعلنا نشم رائحة مقبولة ونرى منظراً رائقاً .
نحبه لأنه طبيعى يعيش على طبيعته بدون تكلف ولا غرور ولا يسير منتفخاً مثل كثيرين وداخلهم فراغ ، وكثيرون علوا وصنعوا الكوارث وظلوا يعتقدون أنهم فوق مستوى البشر وأن عبقريتهم نادرة الوجود ، مثل الامبراطور الذى أحرق روما ، وراح يغنى عندما قرروا اعدامه ، ويرثى لحال العالم لأنه سيفقد رجلاً مثله قائلاً : " أى فنان عظيم سوف يفقده العالم الآن " !
هم الآن يفعلون ذلك تماماً بدون أى جديد ؛ يحرقون ويدمرون ويتسببون فى الكوارث والفتن والقتل والخراب ويعتقدون أنهم على صواب ، وبأن النساء عجزن أن يلدن أمثالهم فى العبقرية والنباهة .
نحبه لأنه يشبه الغالبية من الناس ، يعمل عملاً بسيطاً فى ظاهره ولا يعرف الملل ولا اليأس فهو يعتقد بأن عمله له قيمة وهدف ونهاية ومقصد ونتيجة ايجابية ، وأسطورة الاغريق سيزيف كان محكوماً عليه بأن يدفع أمامه حجراً الى أعلى جبل ويتدحرج الحجر الى السفح فيعود سيزيف يدفعه الى الأبد وكان يفعل ذلك بهمة وحماس بدون أن يشعر بالملل وبأن ما يفعله مجرد عبث فارغ .
كذلك نحن فما يصبرنا على القيام بأعمالنا البسيطة اليومية بدون أن نشعر بملل وسط هذا العذاب الانسانى ، أننا نعتقد بأننا نقوم بعمل له قيمة ونفع ومقصد .
كثيرون فى حياتنا يقومون بأعمال عبثية فارغة بلا قيمة ويتقاضون ملايين الجنيهات ، واذا لم يقوموا بها لن تتوقف الحياة ولن نشعر بأن نقصاً حدث ، بل تصبح الحياة أفضل بدون أنشطتهم المعوجة وحضورهم السخيف ، وكم ممن يظهرون الأبهة والفخامة والعنجهة يلقون بوساخات ممارساتهم الأخلاقية فى شوارع وميادين حياتنا السياسية والاجتماعية ، ونحتاج لسنوات ومليارات لكنسها .
وأخيراً :
البعض قلل من قيمة اقالة أو استقالة وزير العدل بعدما حدث ، بزعم أن الوضع سيبقى على ما هو ولن يصل ابن عامل النظافة الى منصب المستشار .
وهى فى حقيقة الأمر نقطة البداية لمشوار طويل قد يستغرق عقداً أو عقدين ؛ فالثورة الحقيقية تغيير بطئ متدرج وصولاً لنيل الحقوق وتحقيق المساواة ، والمهم ألا نفقد نقطة البداية التى منحنا اياها الوزير السابق ، وألا يشعر الساعون والمناضلون بالملل والضجر ، والأهم أن يظلوا على تواضعهم ونظافتهم وسلميتهم .