نشرتها الشروق العربي 28نوفمبر-04ديسمبر 1991

الإهداء : إلى الرّجل الّذي رحل .. إلى موطن الرّجال

لوحدي معه ... في ذلك المكان الصّاخب .. نجلس بين صخور الشاطيء العاتية وسط مهرجان من الأمواج , البحر حولنا كأنّه يلفظ آخر أنفاسه ... ولوحده معي غرقنا في متاهات الحديث عن الإنسان المعذّب في هذا الكون ... عن دوره ... عيسى هكذا جاء إسمه , تلقائيا كعنفوان شبابه , إنّه ليس شخصيّة مثيرة تُنسج حولها القصص , لكنّه إنسان عادي .. واضح , وُجد في زمن إختلطت فيه الأشياء , إمتزجت ... وتعفّنت , عندما ينتابني الإحساس بالضّياع ... عندما أفقد القدرة على الحياة ... وعندما أشعر أنّني أعيش على فوهة بركان يوشك أن ينفجر ... أراه هادئا , صلبا ... فأحنّ إلى السّير في ظل قوّته كغريق يستند على آخر لوحة للنّجاة ... إنّني لست ضعيفا ... إنّني ضائع .. لكنّ الضّياع قمّة الضّعف ...
عيسى .. ويأخذنا الطّريق .. وتبتلعنا المدينة ... ونغوص في الحديث عن كلّ شيء , ثم يسألني فجأة عند آخر مكالمة هاتفيّة بيننا : -
- هل دعوت لي في صلاتك ؟
- طبعا
- لكنّه إختيار وليس فرض
- يفرضه عليّا إختياري
- سبحان الله
قالها ضاحكا كعادته في التّعبير عن حالة إعجاب .. ويصمت .. فأقرأ في لحظة صمته حنينه الدّائم إلى تلك الأرض البعيدة الّتي لا يعرف عنها شيئا سوى أنّها ساحة إستشهاد ... إستشهاد حقيقي , والشّهادة جنّته المنشودة .
فلقد عرف طريقه .. وتهيّأ منذ بداية شبابه لأن يكون رجلا .. في هذا العصر المخنّث , وقرّر الرّحيل فانهارت كلّ الحدود , وتلاشت الدّول , وتمزّقت جوازات السّفر ولم يعد غير الدّم المعطّر يشغل التّفكير , أخذتني دنيايا أيّاما ثمّ أفقت على خبر رحيله وتذكّرت آخر مرّة شاهدته فيها , كان مستعجلا لكنّنا تصافحنا بحرارة ولم أكن أدري أنّ الإنسان الّذي كسبته أخا سوف لن أراه ثانية , عيسى .. لا أحب أن أراه ثانية , لأنّي أحبّه .. أن يظفر بجنّته المنشودة .
لوحدي - ولست معه - بقيت في ذلك المكان الصّاخب .. أجلس بين صخور عاتية وسط مهرجان من الأمواج .. والبحر حولي يلفظ آخر أنفاسه ... ولوحده - وليس معي - رحل إلى العالم الّذي يحنّ دائما إلى الهجرة إليه .. عيسى ! هكذا جاء إسم ملحمة إنسان هجر عالمنا .. في صمت