اليوم ؛ حين وضعتُ يدي على صدر أمي لأتحسس بتر أمومتها، قلت لها: ستظلين جميلة يا أمي.

قلت ذلك ولم أنتبه إلى يدي التي كانت ترتجف،كأنّما أضعها على جرح عميق.. عميق أكثر من ذلك الأثر الذي تركه مشرط الطبيب كعلامة على أن الموت مرَّ من هنا.. وعضّها قبل أن يغادرها.
غير أنها انتصرت عليه في انقاذ ما تبقى منها.

تبكي أمي.. لا على ثديها المبتور، بل من تلك "التجربة" التّي وضعتها في خانة المحتضرين. إلى أن نجح شيء ما، اختلفت فيه أقاويل الأطباء، في غزو عينيها التي شهدت فيما مضى أغرب القصص والحكايا، فاستبدل ألم البتر الذي حل بها، والذي ترك فيها رغبة غريبة في لمس جزءٍ من جسدها ما عاد موجودا.. بألم الوخز في عينيها، والذي عادة ما يترك عند صاحبه، احساساً عميقاً بأنه على موعد مؤكد مع العتمة الأبدية. والعتمة في هذا المعنى لامرأة مثل أمي، هي أكثر الأشياء رعبا وهولا.

أطيل التأمل في وجه أمي.. ثم لا ألبث أمام هذا المشهد أن أنفجر ضحكاً. فالحياة لمثل هولاء، تحتاج لمن يُضحكهم، لا لمن يُشعرهم بدنو موتهم.

لم يسبق لي أن بكيتُ أمام أمي وهي مريضة. على الرغم من يقيني أننا حين نفترق، سيبكي كلّ منا لوحده.. وعلى طريقته.

أمي كانت، ولا زالت، تبكينا وتبكي نفسها، بدعاء أخالها وحدها من تتقن قوله.
أمي التي كانت تطلي يديها بحبر القرآن.. وتصنع من آياته كحلا تضعه في عينيها الطاعنتين بالدفء والحنان، رغم إنهاك "الكيماوي" وما أحدثه فيها، هاهي ذي اليوم؛ بعدما ما عادت قادرة على الاثنتين، باتت تغني في كل مساء، كل أغاني الشمال الحزينة. وتضحك.. تضحك كما لو كانت تبكي.

من يخبر أمي.. أننا ننكر فيها أوجاع خريف العمر، ولذا لا زلنا نحتفي فيها لنخلع عنا وجع الطريق والدرب الطويل!
من يخبرها.. أننا بماء دعائها نغسل شقاءنا، وببحة صوتها نسمع أشجى المواويل!

من يخبرها.. أنها روح البلاغة وميزان الصرف!
أنها تنهيدة الفواصل واستقامة الحرف !
من يخبرها.. أننا ندري بأن "طناجر الضغط وصواني التيفال" ما عادت تعنيها. وأن "قطرة العين وشرائح الهرمون" هي هداياها التي غدت ترتقبها!

قولوا لأقدار أمي، إننا نرفض أن يقضم العمر جذوة الابتسام من عينيها.
قولوا لها.. بأننا نريدها كما الشجرة الوارفة.. كما الزيزفونة الواقفة التي ننسى تحتها أشياءنا، حين تظللنا من وهج أحزاننا.
قولوا لها.. إنه كلما زادت التجاعيد على وجهها واحدة، خرت حروف الأبجدية لها ساجدة.

قولوا لأمي..
إننا دونها فواصل منسية على هوامش الأيام.
وإنها لنا، كانت ولا زالت، ترويسة العمر.. ووالله إنها كل العمر لو تدري!