اليوم ابن الأمس البار بأبيه ، كعادتي في الاستيقاظ ، بداية يوم ٍ لا جديد فيه ، لا أعرف السبب في حرصي على دقائقه الأولى ، لكنني أعرف مدى حرصي على الالتزام حتى بالثواني التي تسبقه .
على جادة ذاك الطريق - الذي أصبحت أحفظ تفاصيله - خط سيري حيث مكتبي ، بيننا نوع من الوُد يحترم أحدنا الآخر منذ سنوات ، وحتى اليوم ، مستمع جيد لصباحي ، لا أثرثر يكفيني أن أبدأه لتكون خلوتي بذاتي دون مقاطعة ، وقت مستقطع للتفكير بعيدا عن الجميع ، التفكير في كل شيء وأي شيء بهدوء ٍ ووضوح .
أتنفس ندى الصباح وأرقب استيقاظ زهراته ، عناق طويل ممتع ٌ مع نسيمه البارد ، يلتحفني يراقص أجزاء جسدي ، يخاطب النشاط والحضور .
على ذاك المكتب أعود لتفاصيل أحداث يومي ، أوراقي حيث مكانها ، ابتسامة المستخدمة العجوز تلقي تحية الصباح ، يسعدني حديثها ودعاءها لي كأنه وِردٌ صباحي أنتظره مع قهوتها التي تضعها على مكتبي ، تكتفي بالنظر في وجهي ، أصبحت تعرفني ، تقرأ كيف سأبدأ ، تخاطبني بحذر، تعلم مزاجي أكثر مني ، يتكرر دخولها كثيرا لتتابع قهوتي التي تنتظرني ، تساعدني على استبدالها ، تتحرك دون حديث ، ألحظها ولا أعير اهتماما لما تفعله - آخر اهتمامي ذلك الكوب - رغم أنني أنتظره وأعاتبها عند تأخرها في إحضاره ، كأنني أخشى أن أفقد كامل طقوسي .
تتحرك الحياة وتدور عقارب الساعة وحياتي ملك ٌ لمن حولي لا أجد من الدقائق إلا لأقرأ أمرا آخر أناقشه لأتابع غيره .
كم التقيتُ من بشر ٍ ، كم كنت محورهم ولا تربطني بهم إلا ما أساعدهم في حله من مشكلات يومهم ، كل ٌ يشعر أنه يحمل معضلة تطلب الحل وأنا ذاك الومض أو الطريق الذي يساعدهم ، هكذا اعتدت منذ أن ارتضيت الجلوس على ذاك الكرسي ، شعور ٌ غريب عند ملامسة وجدان الآخرين ، كل ٌ يشكو ألمه ويحمل من الهموم وأنا أستقبل الجمع بابتسامة الرضا وهدوء القانع ، أجدني أفتح ذراعي لأحتوي ألم من أعرف ومن لا أعرف وبعض ساعاتي لمن أعرف ممن يعملن معي ، هموم النساء لا حصر لها وكأنني لا أعرف تلك الهموم !
كم وقفت متسائلة عن سبب قبولي لتلك الهموم وسماعي لمشاكل الآخرين ، سألت نفسي كثيرا هل يجدونني مستودعا لأسرارهم أم ابتسامتي التي تجذبهم لطلب الراحة أم أن الألم الذي يحملون يبحث عن موطنه الأم ليُلقي بثقله داخل العمق !
لا أعرف ولا أريد أن أعرف ، غاية الأمر قناعتي في التخفيف عنهم ولعلي لست الطبيب المداوي ، ليتهم لا يفطنون أن فاقد الشيء لا يعطيه ولكنه مستمع جيد وهذا ما يريده قومي.
أختنق بيومي وأمارسه بروح عالية يشوبها الألم نسيت وسط الجمع ذاتي وأجدتُ الهروب مني ، صلبت الفراق على قارعة الطريق ، تركته عاريا أمام المارة بعيدا عني ، ليكون ألمه حين خُلوة وحين غفلة من البشر ومارست الحياة وعذرا إن قلت : ادعيت الحياة .

لتلك الثواني :

لا جديد .. لا جديد ، وتتوالى الأيام وتتوالى الصباحيات .