حذاء لامع للحصان الأرعن


العربى عبدالوهاب


[ 1 ]
تقاربت المقاعد دون أن تتلامس ..مسافات محسوبة بدقة متشابهة فى التقعر، فى التلهف للخلاص من برودة الليل .. أفاقت على ملاطفات خرقة صفراء بيد العامل العجوز، كان منحنيا بطبعه ،يتطاير الغبار داخلاً أنفه وصدره، ويده دائرة حول الحواف .تذكر الأطباق الوسخة ، باقتراب موعد الاجتماع . مازالت المياه نائمة ، تخاصم الصنبور . حاول أن يصلب عوده ، لتتمكن عيناه من رؤية ساعة الحائط ، فاجأته دقات رتيبة ، ولَّى وجهه شطر البوفيه ،حتى ابتلغته ضبابية المكان .
[ 2 ]
قال أحدهم : هذا تكليف وليس تشريفاً .
رمقته السيدة المصبوغة وكادت تضحك .. كان مهندماً ، يتسحب صوته بخفة الثعبان .
همس البعيد لجاره ـ لحظة أن غرق المتحدث في قعر الفنجان ـ
: ماله هو ؟!!
: جائز أنه صار الرئيس .
: هكذا !!
وهمست سيدة الجاكت الأسود للمصبوغة : يا أختي على فصاحته ! ، ثم نهضت قائلة : هيا يا جماعة .. طالما تم تعيين الرئيس .
همهم الحاضرون باندهاش ، أردفت المصبوغة : إنها تمزح .. هو متطوع .. لا أكثر .
لم ينطق المهندم [ المتحدث ] خوفاً على عدد الأصوات لذلك عدَّل من حَبْك الكرافت ، شاعراً بنحافته المؤقتة .
عمَّ لغط ـ كالعادة ـ وتناثرت تساؤلات جانبية ، فتكسرت ثلاثة فناجين قهوة ، كوب ماء ، قلم ، وتمزقت ورقتين بين أصابعهم المرتجفة .
[ 3 ]
مؤسسة غارقة في الضباب .. تستقرأ الفخاخ ، تعيد ترتيب الأوراق .. يتحسس البعض قدميه خائفاً ، ثمة أشراك تتوخاها أقدام لاهثة .
والفناء ـمازال ـ يحف بالأطفال .
كل صباح ، تتقابل عيون زائغة ، بأخرى دامعة ، بأقلام حمراء ، بدفاتر التأخيرات ، فتنسرب الآهات إلى تجاويف الحوائط .
كان الزجاج مسجوناً وسط حواف الشبابيك ، خشب واهن ، أفرغ أمعاءه السوس ، سوس .. فئران .. أوراق .. دفاتر بلا مبرر .
تغطت ـ الآن ـ بهالة الضباب ،
وتبخرت .
[ 4 ]
لحظة أن مرق من بين قدميه ، لم يلتفت ، فتربص الفأر بالعامل العجوز ، وفاجأه عندما رفعت يداه صينية محتشدة بالفناجين ، ظهره المنحني كان أقرب لاحتواء الصينية قبل السقوط.
قال : هكذا يا فأر الغبار .. وابتسم
كان البوفيه موئلاً لفئران متباينة الأحجام ، اعتادت ملاطفة العامل .
قبل أن يطرق الباب على المجتمعين همس : مؤسسة ممتلئة بالزواحف والسحالي والفئران .. يا الله !!
ثم هز رأسه ـ بلا مبالاة ـ ودق الباب .
[ 5 ]
اتفقوا أخيراً .
: أن يُخرج كل واحد أسلحته .. تم تعيين لجنة للتقييم .. تراجعت اللجنة واحتست ـ بمفردها ـ فناجين القهوة ، وتجشأت . كاد النوم أن يخطَّف أبصارهم ، لولا ارتفاع اللغط ، وبعض الأصوات .. تقلبوا في مقاعدهم ذات اليمين وذات اليسار . أفاقوا على سيدة الجاكت ، مادةً يديها في قعر جيوبها .. بانت وريقات ملفوفة بعناية . وقرأت ( نظرات متأنية ـ أشراك الاختبارات الصغيرة ـ علاقات منفردة ـ فخاخ ـ فوق الجميع )
وانسحب صوتها المتقطع فجأة .
كادت أن تنفلت ضحكة "المصبوغة" ساخرة ، طوال الاجتماع يرتفع حاجباها إلى أعلى ويهبطان بهدوء ساحبين نفس السخرية .
بمجيء دورها .. أفرغت جيوبها ـ كيفما اتفق ـ عن لا شئ . وسط اندهاش الحضور ، أشارت إلى منطقة في الدماغ ـ لم تصل إليها الأصباغ ـ بسبابة يدها اليمنى ، وقالت : بهذا .. فقط يا سادة .
ابتسامتها المنسحبة أبانت هوَّة عميقة بلا قرار .
: يا ستار .. وتطلع ذو اللحية الخفيفة للسماء طالباً نجدة عاجلة .. لمَّا جاء دوره .. فقط ..تطلع للسقف لحظة وأعلنت جيوبه براءتها من الأسلحة .. ثم قال : واحــد .
استقرت أثناء ذلك حدوة حصان لامعة ، فضية ، تجاورها عصي لولبية صغيرة ، صاحبتها ابتسامة المهندم الذي تراجع بمقعده للوراء ، فصار مقعده شاذاً ومنفرداً عن الآخرين .. توجهت كل الأنظار نحوه ، طفح ابتسامة بريئة ، كي يتمكن من اعتلاء النظرات ،ويتغلب على نحافته .. يرمق الحدوة في أعينهم باستمتاع خفي .
بدخول العجوز ـ للمرة العاشرة ـ عليهم .. نسي الباب موارباً .. وزع الفناجين ، ولامست يده الإطار الفضي للحدوة عفوياً .. قامة المهندم كانت منتصبة أشعرته بمدى انحنائه ، فانسحب .
[ 6 ]
يُذكر أن فرارهم كان مشهوداً .. انشبكت كرافت المهند في "رزة" الباب .. سقطت سيدة الجاكت تحت أقدام المتدافعين ، لم تتمكن من النهوض بمفردها ، ساعدتها إحداهن .
لهجت اللحية بالاستغفار .. غلف المكان ما يشبه الصراخ ،اللعب ،الفوضى ،ونظرات التشفي .. هرول العجوز باتجاه فناء المؤسسة ،فتوافدت من شقوق المكاتب وفود ، من ورائها أذيال الوفود .. لذلك لم يتمكن مشرف اليوم من التفرقة بين اثنين من الفارين ، و الأطفال ، فضربهم بعصاته على مؤخراتهم .
أما السيدة المصبوغة ، لم تتمكن من حمل حقيبتها التي انفتحت فاضحة ، عدداً لا يحصى من أدواتها الخاصة ، فسرقنها ، وهن يربتن على ظهرها ويحاولن امتصاص نظرات الزعر . كانت تنظر ورائها للفأر الضخم .. تمسك ساقها المقروضة متلفتة على حجرة الاجتماع . وسمعن طقطقة أضراسها ، فابتسمن ـ خفية ـ اغتباطاً ورضا.
[ 7 ]
لم يفطن الفأر لانغلاق الباب ، إلا بانسحاب ضوء النهار . وحين غلف الظلام الحجرة وحطَّ طبقات السواد أمام عينيه ، قال وحدي .. أتحسس الطريق .
خبط الباب المغلق ثانية.. وسابعة عشر ؛ دار حول النافذة ، وحول المقاعد المبعثرة ، وحول نفسه …… بلاط بارد .. دواليب صاج .. مقاعد فقدت سخونة أصحابها . همَّ بمحاولة جديدة .. داعبته ابتسامات صغيرة .. مؤكد أنهم …… ولم يكمل . صاحبته بحيرة الحزن ودفعته إلى محيط الحيرة . هذا الصباح لم يكترث به العامل (يا له من أريب !!) يمعن في انحنائه دون فائدة .
زحفت البرودة إلى أطرافه .. فر نحو حافة المنضدة .. توقف قليلاً ، ريثما يشهق بعمق . سمع أصوات صغاره في الفناء .
لا أحد .
قرض بتمهل بضعة أوراق ، بيد أنه انزلق إلى الأصباغ المنسكبة ...
همهمات واهنة ندَّت عنهم لم تسمعها في الخارج الصغار .
تحسست رأسه حدوة الحصان المدورة كأن برودة المكان احتوتها .. قال لنفسه ، أقتل بها الوقت وأخذ في اللعب .. مرق برأسه خلالها ، وأعاد .. ثم ابتسم .. كان جسده الممتلئ يواصل عبور دائرة فضية، معتاداً على برودتها ، مرة بعد مرة .. وهمس ، رياضة .
بعد سبع وخمسين مرة ومائة ، كان جسده يمرق بخفة الثعبان .. تصاحبه أسود السيرك في العبور ، وتخايله حلقات النار وتصفيق الحضور .
لما تذكر أنه متعب ، بزغت ومضات خضراء من أطياف طفولته ، معها عصي تتلوى في أيادي مدرسيه ، غفا قليلاً محتضناً نزق صغاره ..كانت حدوة الحصان تسقط بثقلها الخرافي على ذيله الدقيق ،
وتقطعه .