الأثـــر
العربى عبدالوهاب
تعرف يا بني : اليوم كل واحد لا يهمه سوى مصلحته عمي هذا الذي يرسل معك السلام . منع عني خمس جنيهات كنت سأكمل بها شراء [السدد ] الغاب لسقف البيت قال : يعني ألفُّ وراءك على الجسور .. تلك الجسور وأطلق آهة على أيام مضت .
رحمك الله يا أبى .
هل نكأت جراحك يومها ؟ !
في ذلك المساء البعيد . وكان الشتاء يحتاج إلى الدفء .. تجمعنا .. أشعلت أمي الوابور أبي شرائط .التففنا حولهما .. دخل وجيه أخي علينا يحاول إخفاء ما يمضغه . وتضحك أمي على طريقته في تذوق كل ما تقع عليه يده .
تقول : وجيه ولدي فأر لا يهدئ .
أحسسنا بدفء أبوينا ، فاسترخينا تحت جناحيهما .
تدحرج الكلام على شقاوة وجيه .. يوم ذهابه مع أمي إلى سوق الأربعاء .. مرَّا على خليج الطبالة .. وكان أمين مشمراً جلبابه حتى ما فوق وسطه . تبين مؤخرته وحالته كلها . ووجيه مصرٌ على مناداة أمين الذي يسلخ جلد الحمير ولا يرد . إنما يدير للناس مؤخرته لتنكسف وتسير .. ووجيه يضحك ويقول لم أتركه حتى ابتعدنا وتوقف عن العمل وظل يدير مؤخرته إلى كل اتجاه .
قال أبى ــ بعد ابتسامة رقيقة لم تفارقه . كأنه يتذكر عالماً بعيداً يحضر ، وجوه ربما رحلت تجئ .
نافضة عنها عباءة النسيان ــ الأيام التي خلت .. لها طعم حلو عند تذكرها .
في ليلة خرجنا ــ أنا وعمكم أبو الهادي ــ معنا الكبريت ، جمعنا أعواداً جافة من الطريق .. شوينا ذرة خضراء من غيط جدي متولي .. آه أيام .. كان أحلى ذرة .. ليلتها أكلنا أكثر من عشرين كوزاً .
عند عودتنا على القناية كان خيالنا مرتمياً على الزرع .. ممدوداً . نضحك . ونجري . نقذف بعضنا بعضاً بالطوب .. رأينا من بعيد خيالاً يجري تجاه الترعة . وسمعنا طشة قوية في الماء . فسرنا صامتين .
قال الـعم متولي لأبي متضاحكاً بعدما اكتشف سرقة الذرة .
إنهما بالتأكيد عبد الوهاب وأبو الهادي .. ظنهما محمد الشوادفي ماردين .. المارد الكبير الأب خلفه ابنه الصغير يحاول أن يتعلق برقبته ..
ــ كنا فعلاً نجري على القناية .. نضرب بعضنا .. نجري .. ثم نقع ــ ذاك الصباح أخذني العم متولي ــ وهذا ما جعله متأكداً ..
قال : ضع قدمك هنا . ولما لم أرض . جرَّ قدمي رغماً عني .. وهنا .. ثم نظر إلى باطن قدمي .. وإلى آثار أقدامنا .. وأكمل :
هذه .. آثار قدمك .. والأخرى .. عندما أرى أبي الهادي .. ثم أمسكني من أذني بشدة قارصاً إياها . رأيت عينيه عميقتان .. خفت .
قال : أرض أبيك واسعة .. هناك .. وليست هنا .
أنا قصاص أثر ، ولا يضحك على شيبتي ــ عندما أنكرت ــ عيل مثلك .
كأنه ليس عمي .
ذرة .. ملعون الذرة .. والقرابة .
ولم أنس حتى الآن ــ كأني أراها ــ في غبش الظلام بين عيدان الذرة ــ
نظرته القاسية
.