كمْ أَحبَ الفوضى والأشياءَ التي تبدو على عفويتها. الأوراقُ المبعثرة, أعقابُ السجائر, فناجينُ القهوةِ الفارغة المتناثرة في أرجاء الغرفة الطينية, الثيابُ الملقاةُ على جانب السرير المهترىء، والكتبُ المتزاحمة على طاولته الأثرية. كانَ يكرهُ الترتيب, فأشرطةُ الكاسيت موضوعةٌ بشكل عشوائي، ولم يكنْ راغبا حتى في ترتيبها. أما الصورُ الملصقة على الجدار، فكانت موضوعة ٌبشكل مائل على نحو غير تقليدي. ولعلَ أطرفَ بل أغربَ صورة من هذه الصور الملصقة، كانت صورة لحذاءٍ قديم. رفضَ أن ينزعها عن الجدار على الرغم من منظرها غير اللائق. لقد أحبَ هذه الغرفة. ربما لأنها بسيطة وربما لكونها أرخصُ غرفةٍ استطاعَ استئجارها بعد بحث طويل ومرهق في أحياءِ دمشق القديمة. كانتْ حيطان ُالغرفةِ مطلية بالكلسِ الأبيض، لتُبعدَ عنكَ أفواج الناموس في ليالي الصيف الحارة، و سقفُها كان مستعمرةً للعناكبِ التي نصبتْ شباكها المغبرة على كامل السقفِ الخشبي. أما ملحقات الغرفة فكانت مطبخٌ صغير، وتواليت صغير جداً.
في تلك الليلةِ سرتْ في عروقه ِآلامٌ أرهقتهُ، وأوقدتْ ذكرياتهُ المّرة. أرادَ أن يحّلق فوقَ جراحاته "كطائر نورس" متناسياً تلك الوحدة التي لازمتهُ، ومتناسياً ذلك الوجع الذي يتنفسهُ صباحَ مساء، وجعُ الروح.
أرادَ أن ينسى كل مَنْ حولهُ, أهلهُ, جيرانهُ، وكل الأصدقاء. راحَ البردُ يتسلل إلى عظامه، فشعر أن أطرافه ستتجمد, وأن دماغهُ شُلت عن التفكير. نظرَ منَ النافذةِ ورددَ بصوتٍ مسموع: "يا الله مازالتْ تمطر". ثم عادَ ليستلقي على سريره ملتفاً من البرد. قال في سره: "سيجارة أخرى من هذا التبغ الرديء، سكتتُ الجوع الذي هاجمني منذ أيام". بعد أن صرفَ آخر ليرة معه, وصمم أن لا يطلب أية نقود من والدهِ الذي لم يكن راتبه التقاعدي يكفيه لشراء الدواء.
نظرَ مجددا من النافذةِ ثم قال لنفسهِ: "يبدو أنها لن تتوقف". حدّق مجددا ًفي محتوياتِ غرفتهِ، نظرَ إلى صورة المسيح المعلقة على الجدار. ثم تأمل المدفأة فهيأ لهُ أنها ترتجفُ من شدةِ البرد. فهي لم يدبُ الدفء في أوصالها منذ أمد بعيد. أشعلَ سيجارةً أخرى ثم تذكرَ الامتحان. غدا يجب أن أذهب إلى الكلية لأقدمَ امتحاني الأول. لابد منَ الذهاب إلى أخي لأطلب منه ولو أجرة الطريق إلى الكلية.
نفضَ عنه "اللحاف" الذي كان يبعث الدفءَ في جسدهِ الهزيل, ارتدى بنطاله, ثم تناول حذاءه من تحت السرير. قرر أخيراً الذهاب إلى أخيه. كان يتوجب عليهِ المشي لمدة ساعة للوصول إلى سكن أخيه. والمطرُ أخذ بالازدياد. إلا أن فكرة الذهاب إلى الامتحان في الغد, والاستمتاع بالدفء بجانب الموقد ولو لساعة واحدة, وتناول وجبة عشاء متواضعة. شجعته. حتى ولو نفذتْ حباتُ المطر إلى عظامه.
كانت الساعة تقاربُ الثامنة مساءً عندما خرجَ قاصدا أخاه. مشى على الأرصفة المحاذية للمحلات التجارية والمطاعم التي كانت تفوح منها روائح شهية, ذكرته بجوعه الشديد. أما الشوارع فقد كانت تخلو إلا من بعض المارة. وراح بعض أصحاب المحلات يغلقون محلاتهم, بسبب المطر الغزير, ولانعدام الزبائن في مثل ِهذا الطقس.
مشى تحتَ المطر, وحالة من الشرودِ ترافقهُ في كل خطوةٍ يخطوها. كان يفكر في استقبال زوجة أخيه له. "لابد من أنها ستشعرُ بالاستياء لزيارتي هذه، لكن لا مجال للتراجع فالامتحان غداً, ولا أريدُ الرسوب". مرتْ الساعة وكأنها يومٌ بأكمله. ولم ينتبه حتى وجد نفسهُ أمام بيتِ أخيه. أخرج يدهُ من معطفه ورَّن الجرس. كررَ المحاولة لكن ما من مجيب.
قال في نفسه: "هذا الجرسُ اللعين ربما يكون معطلا". فراح يطرقُ على الباب عدة مرات ولكن قي كل مرة لم يكن يسمع سوى الصدى. رددَ بعضَ الشتائم قبل أن يستدير عائداً إلى الشارع الخالي، لاعناً الجرس والجوع والمطر.
"سأعودُ خائباً ككل ِمرة, سأعود لأمشي تحت المطر الذي بللني حتى العظم دون أن أحظى بشيء". يا الله لم كل هذا الظلم؟. مشى في الشارع الخالي وقبل بلوغهِ نهايةَ الشارع شاهد أخيه. زالتْ كلُ همومه، وسيرتاحُ أخيراً من الهّم، والجوع، والتعب.
سأل الأخ: مساء الخير: أين كنت؟.
- ذهبتُ إلى بيتكَ ولكن يبدو أنه لا يوجد أحد في البيت.
- مستحيل فزوجتي والأولاد في البيت, ربما يكونوا قد ناموا باكرا, هيا عد معي. ومضيا سوياً إلى البيت. وما أن دخلا البيت وإذ بزوجته تجلس في الصالون هي وأولادها مجتمعين حول الموقد يتناولون طعام العشاء .
نهضتْ الزوجة ودخلتْ إلى غرفتها دون أن ترد السلام, وليتخلص من الحرج دعا أخاه ليجلس بجانب الموقد لينعم بقليل من الدفء ثم تبعَ زوجتهُ إلى غرفتها. "آه ...ما أروع الدفء وما أروع أن أدخن سيجارة مع كأس من الشاي الساخن الحلو المذاق. بل الأروع من ذلك وجبة عشاء تطرد الجوع الذي احتل أركاني". ولكن ماهي الا ثوان ٍحتى اخترقت الكلمات المعنفة جدار الغرفة, لتصل إلى مسمعه كأنها الرصاصة. ودونما تردد ارتدى معطفة وغادر بيت أخيه، وما ان خرجَ من مدخل البناية حتى استلَ من جيبهِ سيجارة علّها تهدأ من حدة انفعاله، وشعورهِ بالندم الشديد لزيارته هذه. أخرج علبةَ الكبريتِ وتناولَ عود ثقاب كان الأخير. وأشعل سيجارتهُ وما أن هَمَّ بالمشيِ حتى اتجهتْ قطرةٌ كبيرةٌ من المطرِ إلى سيجارته، وكأنها قاصدة أن تطفئها لتزيد من شدة الغضب الذي تولد في نفسه. ازداد المطر بالهطول, نظر إلى الشارع الخالي من أيةٍ حركةٍ إنسانية.
رفعَ رأسه إلى السماء فشقت دمعةٌ طريقها إلى وجهه الملتحي. ثم مشى إلى المطر وحيداً, إلا من عزلتهِ، وجوعِهِ، وألمِهِ. مُوزعاً على الكون ِالشتائم..