قصة ـــــــــــــــ السقوط المعلـق ـــــــــــــــــــ

بقلم / عائشة بنت المعمورة


تسللت "سمية" إلى فراشها وإحساسها بالخطوات تصعد الدرج خطوة.. خطوة تكسر ظلمة المكان الصامت... المريب... بعدما تاهت في القرية الصغيرة التي تتقاطع فيها البيوت البعيـدة عن بعضها البعض.. كانت تحلم أن تصرخ في وجوههـم قائلـة:
ـ أريد أحلاماً كبلتها عيونكم وخنقتهـا أفكاركم وطوَّقتها عاداتكم؟ لكن كل مرة كانت تمشي نفس الطريق دون التفاتة.. تكابر في تحد عيوناً تحاول أن تسرق منها نظرة..ابتسامة..
لم تجهل قيمة العلم ولكن جهلت جهلهم للعلم، وراحت تشرّع الأبواب الموصدة أمامها.. مرة بالهروب ومرة بالتحايل ومرة بالبكاء كطفل يسرقون منه لعبه.
كانت هكذا تبكي لأنهم أرادوا أن يسلبوها عقلها.. فبكت !!
كانت آخر المحاولات أن تبكي على أحلامها المقيدة، فرضـت عليها الإقامة الجبرية وكل مـرة كانت تتحجج بالشهادات الطبية وبضعة نقود تشتري بها ضمير طبيب لأن أخلاقه ماتت كضميره؟!
شعـرت وقتهـا أن قناعتها تفوق طموحاتها وأحلامها، وتتوق إلى ما هو أكبر من ذاتها وعقلها؟!
وأن لا تسرق منها أنفاسها ولا يسرق منها ضميرها أمام بضعة نقود؟!
كانت تبكي ألماً وحرقة وهي تحاول أن تفهم "فاطمة" أن لا تتخلى عن دراستها وتثابـر ولا تخشى السياط وتنهزم أمام عجرفة أخيها وصمت والدها وبكاء أمهـا وخوف إخوتها…
يمر الليل البهيم كصمتها الدامي وتسري قشعريرة في جسدها النحيل، فتخترق قلبها سهام الخيانـة.. تقف أمام الحدس مذهولة.. تصافح وجهها الحنون قهقهـات خبيثة وعبثية كلام معسول ونظرات شفقـة وإذلال منها..
انتبهت فجأة أن الحقيقة انجلت أمامها، وأنها مجرد صورة للموناليـزا اختزلت الحياة كلها في ابتسامة، علقت على الجدار للزينة وأن لا تباع في المزاد..
فتحــت الرسالة وعيناها تلاحق الكلمات بحسرة، تقرأ… وتقرأ.. ثم رحلت بمخيلتهـا إلى اللحظات الأولى عندما رأته.. حاولت أن لا تداري نظراتها نحوه.. حددت ملامح وجهه وحروف عينيه، لم تبتسم بل حدقت فيه قاطعــة كل الأزمنة الماضية في لحظة هو أمامهــا.
لم تتمكــن من أن تنبس شفتاها بكلمة، كل الذي أدركته أنه ليس من زمنها وليس من عمـــرها.. ثم طأطأت الرأس غير مبالية.. تحدق في الغـرفة الضيقة والأسوار التي تطبق على مخيلتها كي لا تهرب مرة ثانية إلى فضاء التفكير وأن مجرد إخفاء الحقيقة هو عجز وقصور أمام الذات اللاواعيـة فيستبعد الحلـم باشمئـزاز يمنعها من أن تنفــذ إلى اللذة التي أخرجتها عن حالتهـا الطبيعية ولم تدركها إلا عند إحساسها بالألم، لم يخطـر ببالها أن تفصـــل لحظة هيجانها الصامت وتشتد وطأته فتتضخم الأحلام أمامهــا لتدرك أنها تحمل الرسالة بين يديها.. ثم تقرأ مـا كتبت له يومًا…
في البدء جاءني الارتباك ولم أعثر على الكلمات التي يمكن أن أكتبها، ورحت أفتش في ذاتي عن حرائق موجعة أحاول تضميدها.. فقد انكوت في لحظات انسحاب بدخان سجائرك التي تخنقني حد الغثيان..
أخذت موعداً لألقاك وروحي ترفرف بين جوانحي مزهوة بطقوس العشق والأحلام.. مازلت أذكر في أحلامي أنك جالس على مكتبك وتنفث دخاناً يملأ الغرفـة ضباباً كثيفاً.. رحت ألملم شتات عمري الباقي في، وانتفضت في وجهك كمن ضاع منه ظله في دوائر دخانك الذي أرعشني وأحسست بالضياع فيه.
شعرت بالخيبة وهي تتملكني أمام انهزامك ببساطة عند سيجارة قذرة تسكنك.. تحتوي روحك.. تلهث بأنفاس متقطعة.. تحاول أن تهرب من لحظاتك الروتينية.
فاجأني عنادك وأنت تشتري جنون لحظة بمنطق جديد.. أرفضه بداخلي وأختصر التناقض في الاعتذار.
لم يكـن من السهل تلقين الكلمات،و لم يكن من السهل محو الألم.. لكـن بتلقائية حزينة شئت أن أروض الاعتراض دون مكابـرة ودموع الأسى تخنقني، واحتقر انفعالي..
ما قيمة الأشياء حينما نفتقدها؟!
يضحكني الذي يحدث أمام هذا السقوط المعلق وتعلقي بالانهزام المدمر، ومحاولة استعادة توازني في لحظات دهشتي واستغرابي.
تبعثرت أنا.. وشعرت برغبة قوية في صفعك لتستفيق من غفوتك.. اكتشفت منفاي فيك وسجني الذي أعوض فيه خيباتي الراكضة في انهزام جراحي والتي تشبهني حد الألم..
أخفيت أسئلتي التي كبلتني وعُدت أفتش عني فيك وأتأمل بتنهيدة أرجعتني إلى ساعة الاعتذار، وتذكرت حينما قلت لك لحظتها.. أعتذر..
كـانت هذه آخر الورقــات عندي أسقطها أمامك.. أعتذر.. فلقد كان يلزمني الكثير من الصمت والقليل من الكلام معك.. لأعيد ترتيب أشيائي وأزيح عنها بقايا العمر الذابل المتجدد فيكَ؟!!
لم أجرؤ على إعادة المحاولة أو فتح الملفات العقيمة التي أصابتني بالدوار، وغيَّرت مجرى حياتي وتركتني فريسة خيانة الأفكار..
هل يمكن أن أغفر لك جنونك، وتسقـــط أمام بوحي لأمتلكـك من جديد.. وقد تفتقد امتلاكي بلذة، لأنني اختفيت وراء ذاكــرتي واختبأت خلف حماقاتي..
ليس ثمة أشياء بيننا نتقاسمها، أو نصارع من أجلها ونخضع بعضنا لها.. سوى الحب…
كانت هذه الرسالة الوحيدة التي بقيت عند "سمية" مخبأة بين طيات ملابسها.. تعيد قراءتها كلمـا أحست بالحنـين إليه وإلى ذكراه…
ـ تواصل القراءة بحسرة تملأ جوانحها..
مشفقة عليك هي أيامك التي تحترق في قذارة سيجارتك.. تنفث عبر شرايينك، اعتقدت أن منطقك هذه المرة غلبني فطالما كنت أحترم عقلك ومبادئك.. ولكن هذه المـرة فقط خذلتني أفكـاري وصار المنطق عندك ينتهي ضد المنطق.. قد تشتري كل شيء بمالك.. عيونهن ولحظة جنون ليلي.. قد تشتري الأجساد العارية والابتسامات المارقة، قد تشتري الأحلام والسعادة العابرة، لكن هيهات أن تشتري الحب؟
كنت تمتـلك أنفاسي وأحلام الطفولة وبعض حماقاتي.. كنت أشعر بالأمان وأتحمل مسؤولياتي بجنون الحب وقوة استسلامي، وكان حتفي قــذارة سيجارة تتفوهها عند كـل شهقة، فأشفق على منطق أيامك الجديد..
ثم تبحر في فضاء أفكارها مرددة…
ـ كنت مجردة من أنا.. أنا كنت وحدي مسافرة في رحلة متعبـة، مدركة يقيناً أنها لا تحتمل، لكن مشيت إليها حباً وكرهاً...
طوت "سمية" الرسالة.. ثم راحت تمزقها قطعة.. قطعة.. فتحت النافذة ورمت بها في الفضاء الرحـب،و هي تراقبها في هدوء تام والوريقات ترتفع وترتفع مع النسمات الباردة التي تعبث بها وترسلها بعيـداً..


بقلم / بنور عائشــة ( عائشة بنت المعمورة)
عضو اتحاد الكتاب الأنترنيت