نقطة !


في أحيان كثيرة نحتاج إلى الماء يتدفق يضرب الجسد فيوقظ الغافي منه ، ولربما تنبت عليه أزهار النوير كما هي على أرض صحراوية تتمايل مع عزف البكور وأهازيج الطفولة ، وماذا يمكن أن يحدث بعدها ؟!
قد يحدث الاستيقاظ وتنتفض الذكريات وتتطاير الهمم هنا وهناك ، وتتلون السماء بلون الشروق ، أو قريب من لون الضحى الصافي. وتتقافز الأمواج على شغب الدلافين ، وترقص الزوارق خلف أسراب السمك ، وترقص ثم الحياة ، والكل يدخل ضمن معزوفة منتظمة ، ويمضي الكل في قوافل متتابعة في بيداء الوجود .

في كل يوم أحاول أن أجد معنى أوسع من الحياة ، فأدلف مدخلا ثم أخرج من آخر ، وأقفز فوق نهر ، أو أتخطى جبلا ، أو أرتقي سورا ، وتجري المحاولات كجريان الماء الذي أحب ، فتنبت أزهار النوير هنا وهناك ، وتعزف الحياة مقطوعتها ، أو أنصت إليها مجددا كما هي دائما ، ثم أنظر إلى وجهها فإذا بعيني رضية كحيلة تبتسم ، فلا أكون حينها سوى طفل يكتشف الأراضي البكر التي لم يعبث بها بعد.

وأنساق إلى نظرات جدتي وهي تهم أن توجهني بقصة طريفة ، فلعل المعنى الذي أبحث عنه يكمن عندها وهي لا تدري ولا أدري ، فما أن تصفّ الحروف تلو الحروف تتلبسها المعاني حتى تتسع عليها أو تضيق ، فأجد أن جدتي تفهم الحياة بأسلوب بسيط .
كانت تقص علي حكايتها وترتسم في ذهني صورة الحياة وهي تذوب بكل محتوياتها في ممر طويل ينتهي إلى...

وتعجبت أن الحياة الواسعة تنتهي إلى نقطة ، وأنها ممر طويل فقط ، وأن علي أن أمضي في هذا الطريق وأنا أبذر أزهار النوير أو مثيلاتها ، أو شجيرات ، أو أن أطرب الأحياء التي تقطن الضفتين بأناشيد عفوية تشبه تلك التي تهدهدنا بها جدتي صغارا.

ضحكت من الأعماق ، تلك الأعماق التي طالما نبشت أرضها فإذا بها مليئة بالصدى ! فأنزعج من الأصوات بقدر ما أعبث فيها . وهكذا قالت لي جدتي : كل الأشياء التي تحصل حولك صدى لحركتك وكلماتك. ففهمت حينها أن علي أن أهدأ وأن أخطو في درب الحياة بتأن حتى لا تزعجني أصداء عشوائيتي .

أوسع من الحياة النقطة التي في آخرها ، هناك تتجمع كل الثمار التي بذرتها ، هكذا استنتجت. وعندما نعتنق هذا المعنى تذوب كل الزواحف التي تحاول أن تشق طريق حياتنا ، وكل المخلفات التي تعشعشت في الذهن ، فما للظروف والعقبات بل وحتى الحقائق المؤلمة أن توقف خطواتنا ، ولا بإمكانها أن تمنعنا من بذر أزهار النوير ومثيلاتها ، ولا أن تمنعني من أن أطرب الأحياء على ضفتي دربي ، ولا تستطع أن تقتلع بذورا رميتها كي تتبرعم ، كل ذلك قد يحصل ! حين تتوه نقطتي فيبدو طريقي بلا انتهاء .

ثم بعد ،،،
جدتي.. كثيرة هي أزهار النوير التي تهش المارة في دربك ، ممر طويل طويل.. ينتهي إلى نقطة هي أوسع من الحياة وإن بدت نطفة !



بقلم / خلود داود أحمد