سبحانك اللهم


البيان ظل ما كان ليشرق بدرا لولا شموس انصهرت فيها أرواح وقلوب وألباب . الأدب حب الجمال مطلقا في الصور والمضامين ، ولولا الجمال ما كنا لنعرف الأدب : أحب لحظها وقدها ودلها ؛ فغردت حروفه وأطربت ، أحب الحق ؛ فانتضى القلم فيصلا لا ينبو ، أحب الحرية ؛ فصدَّع البيان سراديب الذل ، أحب المروءة ؛ فأنجبت الأوراق أطايب الكلم .

البيان منحة من السماء لبني آدم خاصة ، ولكم رأينا ظبيا تلاعب خشفها ، وما هي إلا برهة حتى تراه بين فكي سبع ، فترقبه من بعيد لا تقدر علي شيء ، ولعل من رحمة الله بالحيوان أن مبلغ مقاصده الكلأ ، ولو أنها مكنت من فن القول لنفقت السباع جوعا.

وأخو البيان من مقتضى حاله إذا ما ساقه القدر ، فعثر بلحظ بليغ وقوام منحوت وهمس مبحوح أن يصرف الكلمات نحو آفاق تناطح الأفلاك ، وتسبر غور قيعان المحيطات ليقدم - من بعد رحلة شاقة : مغاليقها فتوحات ، وعقباتها لذات - كلمات من نجوم متقدات بالأمل ، ولآلئ حبيسات الصدف ، ذلك في أول لقاء – وليت شعري كيف إذا هو لم يكن قط - ثم إن العاشق الحق الأديب الصدق لا يجد لذة تعدل دمعا يصبه في حضن الليل من بعد أن يحطمن قلبَه القولُ وجنوده حين تكون عواقبه والصمت سواء .

لا تحزني إن القلب النقي كالشجرة التي تحتضن الطيور وتظلها ، فإذا هجرتها الطيور يوما نفحتها بالنسيم دعاء كل سحر ، وسقتها الندى حبا كل صباح ، ومع كل ورقة تسقط منها تلتمس للطيور عذرا ، فذلك عاشق راحل إلى وطن الحبيب ، وآخر حازم طالب رزق ... إلى أن تتجرد من كل سيئ ظن وأنانية وحسد مع آخر ورقة تسقط منها، ثم إنها تود بعد ذلك أن تكون حطبا في نار كريم، فلا عزاء لها إلا تلك النار ولظاها.

قد كفاني من الحبر ما سكبت – يا عاذلتي على الصمت – وأما اليوم ، فحبري زئبق كلما جهدتُ في أن أسكنه السطر أبى ليعود القهقرى من حيث سال يحاكى ما ترنح في القلب ، وتأرجح في الذهن ، فأنى تكون لي حروف على السطور وأنا كما أنا !

دعيني كما أنا ، ولك فيما تقرئين كفاية عن حروف يتعاورني مدها وجزرها تتلاحق تلاحق الأمواج دون أن تنقش على الشطآن من هديرها كلمة .

دعيني كما أنا ، قلب طفل يتيم يسكن عقلَه شيخٌ هرم ، كلما هم بلهو قرعه الشيخ بعصاه ، ومن عجب أن الطفل منذ نحو أربعين سنة لم يبلغ أشده ولا الشيخ مات !

قد كفاني من الحبر ما سكبت ، بالأمس كنت يافعا تغضي الأوراق عن شطحاتي ، أما وإن الشموع قد أوقدت ، فقد غدا الحبر – يا بنة أخي – عديل دمي ، وربك إني لأضن بحرفي – على ما فيه من عوج – من أن يخوض فيما لا يحمد عقباه يوم لا ينفع شعر ولا نثر إلا من أتى الله بقول سديد .


البيان تجلى كماله المطلق في كتاب الله ، فأعجز الخلق قاطبة ، عجز عز يخرجهم به من الرق والألم إلى السؤدد والنعيم الخالد :

(( إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))


ذالكم النور الذي يحيل كل ما عداه رمادا، فيا ليتني أكتب فيه حرفا متقبلا.