شهادة

أطرق سعد بعدما أنهى كتابة قصة سلقها سلقا من حيث الشكل ؛ فالموضوع الذي قصره قصرا على فكره وحسه أبعد ما يكون عن لبه وقلبه ، ولكن ما عساه أن يفعل و ليس له من قوت وكساء إلا ما يجود به قلمه عليه .

لطالما كنت نابها في الرياضيات كنت أبز الأقران وأحرج الأساتذة ، وهأنا اليوم صفر . أهذه قصة ؟! لا والله وإن حلف ألفا مروان رئيس الصفحة الأدبية في جريدنا الغراء ! رحم الله أيامك يا عم فهمي ليتني أخذت بنصيحتك .

انطلق في أزقة سلكها زهاء ثلاثة عقود حتى يكاد حذاؤه المعمر يذهب فيها ويعود من تلقاء نفسه ، ففي غدوه ورواحه يكتب القصص لقطة – بضم اللام وفتح القاف – من أفواه المارة ليصبها كيفما اتفق حيثما جلس سواء أفي الملحق* أم في المكتب .

حدق باللوحة الضخمة التي تعمم بها مبنى الجريدة ، وكأنه يراها أول مرة ومن بين الحروف تراءى له رئيس مجلس الإدارة الأديب الكبير الذي كان عالة عليه في جل المواد ، وقد كان بينهما في خلوات المدرسة والحواري ما كان . ما كان يعزب عني من أمره شيء حتى وصل إلى ما وصل إليه . ذلك السكير لولا علاقة جمعته فيما بعد بأحد السفراء النافذين ... ، عجبا ! له صيت وجاه ومال لأنه أنكر النكرات . كيف يكون أديبا كبيرا وعاميته ركيكة ؟!

أفاقه مما هو فيه رجلا الأمن اللذان هرعا إليه حينما لمحاه يقدم رجلا ويؤخر أخرى عند مدخل الجريدة ، أوشك أن يولي الأدبار ، لكنه رآهما مبتسمين وكأنهما يسوقان إليه بشارة !

لم الخجل يا أستاذ ؟ أنت الوحيد الذي تنبأ الجميع بأنه سيكون الشخصية المحتفى بها هذا العام . بادره أحدهما بتلك الكلمات بينما حمل عنه الآخر حقيبته التراثية ، وهو بينهما يتصبب عرقا ، فإذا الموظفون قاطبة مصطفين ، وفي مقدمتهم رئيس مجلس الإدارة يصفقون تصفيقا حادا كما يكون حين يطل زعيم من دول العالم الثالث على الجماهير في المباراة النهائية .

وجف قلبه كما يجف قلب العاشق حين تطل عليه محبوبته بعد أن كاد يقنط من قدومها في أول موعد .

هنالك تجلد واصطنع الثقة صافحهم واحدا واحد ، ثم استقر في مقعده في الصف الأول والناس من حوله وقوف ، ود لو يغفلون عنه طرفة عين ليحتال في إخفاء أثر العرق الذي بلغ منه مبلغه .

أصغى هازا رأسه إلى كلمات الثناء والتنويه بما تحدر من سحائب يراعه أدبا وفلسفة وسياسة ... والتي عالجها بعبقرية من وراء حُجُب الرمز وسفور اللغة التي أسلمت له قيادها ... ولا أدل على ذلك من اختيار أكبر جامعة أوربية تُعنى بأدب المشرق له ومنحها إياه الدكتوراه الفخرية اعترافا منها بعلو كعبه وعظيم أثره في عالم الأدب وفن القصة على وجه التحديد . كانت هذه الكلمات مسك الختام من فم رئيس مجلس الإدارة وعلى إثرها ضجت القاعة بالتصفيق .

ما هذه الصورة التي وضعها المحرر – لعنه الله – ألم يجد غيرها ، ويحي ليست هذه ملامح محتفى به وكأني أترقب حكم قاض فإما براءة وإما إعدام ولا ثالث ؟!

- آذنه الخادم في بيته الجديد بقدوم العم فهمي أول رئيس للصفحة الأدبية يوم كان هو تحت التمرين والتجربة .
- أخبره أني مرتبط بموعد بعد نصف ساعة من الآن وأدخله .
- جلس خلف المكتب الجديد وأشعل سيجارا ووضع الشهادة تلقاء الكرسي الذي نوى أن يجلسه فيه وانتظر .


ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـ
* الملحق : حُجيرات متواضعة – عادة – تتبع بعض البيوت عندنا في الكويت .