منْ أدَبِ المُناظَرَة

أكثر الناس تقودهم ألسنتهم لا أدمغتهم، وما ألسنتهم السَّائبة إلا كأَشْطان بين مخالب الشيطان يصرّفها بكيده كيف يشاء، فتأخذهم حصائدهما إلى مصارعهم؛ والعبد المؤمن لا يستقيم إيمانه حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» رواه أحمد.

وأكثر الذين يخوضون في لُجج الكلام، يستقلّون مراكب الجدل، ويجعلونه هوايتهم وسَلْوتهم، فإذا أُوتوا بَسْطة في ألسنتهم وذلاقة في منطقهم، اتخذوا المجادلة شهوة غالبة وغريزة واصِبة، تأصّلت في نفوسهم، وتمكّنت جذورها من قلوبهم، فجفاهم من كان منهم قريباً، واجْتواهم من كان لهم صديقاً حميماً!

وقد كره الإسلام هذا الصنف من المتكلمين الخَصِمين، فقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الأَلدّ الخَصِم» رواه البخاري، وقال في بليَّة المراء: «ما ضلَّ قوم بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدَل» رواه الترمذي.

إننا إذا تتبّعنا الهَدي القرآني في الكلام، أدركنا الجدال المسموح والممدوح، يقول الله عز وجل: {اُدْعُ إلى سبيلِ رَبِّك بالحِكْمَةِ والموْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهُمْ بالتي هي أَحْسَنُ} النحل - 125؛ ففي هذه الآية بيان طرق الجدال وآدابه، فالحق يُدعَى إليه بالحكمة، ويُنصح باتباعه بالموعظة الحسنة، وأما الجدال فلا يُدعى إليه، ولكنه من باب دفع الصَّائل (المتطاول)، فإذا عارض الحقّ مُعارض جودل بالتي هي أحسن. ومما يلفت الداعي إلى الحق، أن الله تعالى أمر في الجدال بالتي هي أحسن، ولم يقل بالحَسن كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة ومغالبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن ليدنو من مناظره ويُؤْنسه ويطفئ من عداوته، ويكسر من حدَّته، ويُسكّن ما فيه من المدافعة والممانعة.

ويقول الله تعالى: {ولا تُجادِلُوا أَهْلَ الكتابِ إلاّ بالّتي هي أَحْسَنُ إلاّ الذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} العنكبوت - 46، فمجادلة أهل الكتاب لا ينبغي أن تكون إلا باللّطف والإنصاف، لا بالبذاءة والاعتساف.

إن الغرض من المناظرة هو إثبات الحقّ والدفاع عنه، وإن مثل المتناظرين كمثل رهط أضاعوا راحلة في فلاة، فانطلقوا يبحثون عنها، فكان همّهم العثور عليها، فإذا ظفروا بها، كانوا جميعاً ظافرين.

إن إظهار الحق يستوجب إثباته بالحجّة والبرهان، لا بالشَّغَب والهَذيان، ليكون الكلام فيه على مثال الحق الأبلج، أَبْيَن من وَضَح الصّبح؛ وإنّ عَرْض الحق يتطلب أن يكون بالأدب والمنطق الأحسن من الأقوال والألفاظ؛ يقول عبد الله بن عباس: رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته.

إن المنطق الحسن يزيد في ودّ الصديق والمناظر، ويستلّ من النفوس سَخائم الأحقاد والضغائن، ويُخمد نار المقت والشَّنَآن. والعقل بلا أدب كالشجر العاقر، لا يجني منه المتفيِّئُ ثمرات الحقيقة؟!

قال بزر جمهر: ليت شعري! أي شيء أَدرك من فاته الأدب؟ وأي شيء فات من أَدرك الأدب؟

تضمّك بلا ريب مجالس مناظرة، وحلقات محاورة، فإذا عارض رأيك الصائب أو الخائب مناظريك رمَوْك بجوارحَ من الأقوال، وصواعقَ من الأفعال! وإذا عجزوا عن الإفحام بالحجّة والبرهان لجأوا إلى الوسيلة البغيضة التي تُثبت جهلهم وإفلاسهم، وهي التحقير والاتّهام؛ وربما انحدر بهم الإسفاف إلى دَرَك الشّتائم والسّباب!

لا جَرم أن ما آل إليه أهل هذا الزمان في حوارهم وجدالهم يجفو عن آداب الإسلام، فقد فشت طبائع الجفاء وأخلاق المراء، وأصبح حب الانتصار للنفس مقدَّماً على واجب إظهار الحق؛ لكن المؤمن السالك في مدارج هدي القرآن الكريم، يسير في كل ما شَجَر بينه وبين إخوانه مع الحقّ المبين، أنى توجّهت ركائبه، وأين استقلَّت مضاربه.



منقول أسأل الله أن ينفعنا به