كانت الأبواب مفتوحة، بلا قضبان... لكنني كنتُ مسجونًا.
كل شيء يدعوني للرحيل، وكل شيء يأمرني بالبقاء.
الطريق أمامي، لكن قدماي لم تتحركا.
السماء واسعة، لكنني لا أستطيع التحليق.
الأيام تمضي، كأنني خارج الزمن.
الهواء حرٌّ، لكنه يضيق حين أتنفسه.
كل شيء يحمل آثارها.
كل شيء يعيدني إليها.
الصمت لم يعد صامتًا... إنه يردد اسمها، كأن الجدران حفظت صدى صوتها.
حتى هذا الجسد... أفتقده، ظلٌّ بقي معها حيث رحلت.
صورتها على الجدار تأسرني بنظرتها المتلألئة، كبريق قمر غاسق يبدد عتمة الغرفة... لكنه يسرق سكينتي.
مرآتها لا تزال معلقة هنا، تعكس طيف وجهها، وتحمل ابتسامة وداع تأبى الزوال.
رائحة عطرها تعبق بالمكان، تخترق ذاكرتي، تستدعي زمنًا مضى.
حديقة أينعت ربيعًا، ثم ذبلت تحت شمس صيف قاسٍ.
حتى إناء الزهور، رغم ذبول أزهاره، لا يزال يحتفظ بعبقها، كأنه ينتحب من كان يسقيه.
قلبي ينبض بجنون، ودمائي تتسابق في شراييني كأنها تحاول الفرار، تحمل ارتباكي إلى عقلي، فتترجمه أعصابي إلى صداع حاد.
أشعلت سيجارة، وسحبت نفسًا عميقًا... كاد أن يخنقني، كأنه يعاقبني لمحاولة النسيان.
مددت يدي إلى فنجاني كعادتي، رشفة... لم يكن طعم القهوة.
بل طعم آخر... طعم شفتيها.
كان عالقًا بحواف الفنجان، كأن الذكرى تأبى الرحيل، تذكرني بقبلاتها، وتملأ فمي بمرارة الاشتياق.
كأن كل شيء أحببته، لا يزال يحتفظ بآثارها.
لا متعة في سيجارة، ولا في قهوة تحاول عبثًا محو أثرها.
فوضى تجتاح عقلي، كقارب خشبي يتخبط في بحر هائج، تتلاعب به الرياح كما تتلاعب بأوراق الشجر.
بحثت عن شيء يؤنس وحدتي، فامتدت يدي إلى المذياع.
أدرت الزر، واندفعت الموسيقى كقطيع خيول برية.
أدرت الأزرار بعصبية، أبحث عن رومانسية قديمة، عن لحن يذيب مرارة الحاضر.
حتى توقف الزمن... أغنيتها المفضلة.
صوتها ينبعث في أعماقي، يوقظ رماد الذكريات، ويبعث الحياة في أيامي الخامدة.
حتى الأثير لم ينسَ شدوها، يملأ المكان بألحانها، كأن الغياب لم يحدث.
بين اليقظة والحلم، غرقت مع الأشجان، حتى غلبني النوم.
دوى الرعد، فانتزعني من شتاتي.
النافذة مشرعة، والبرد يجلد جسدي بسياط الصقيع.
قشعريرة تجتاحني، تيار بارد يسري في أوصالي، يوقظني من غفلتي.
امتدت يدي بلا وعي، تتلمس شيئًا يدفئني، فوجدت وشاحها، مسندًا على ذراع المقعد.
سحبته فوق جسدي... دافئ... ناعم الملمس... كأنها تغطيني بنفسها، كأن أصابعها تسحب الغطاء برفق، لتدفئني بحنانها.
لا إراديًا... ربما؟ أم أنني كنت أبحث عن هذا البرد ليوقظني؟
تركْتُ الوشاح ينزلق عن كتفي ببطء، كما تركتُ النافذة مشرعة. هواء برائحة المطر يمر عبرها، ضباب كثيف يحجب الرؤية. قطرات ندى تتجمع على الزجاج، تتشكل بسرعة، تنحت ما لا أستطيع نطقه حرفًا حرفًا، وتكتب:
ا ن ت و ح ي د