أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: بروق

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    المشاركات : 1,570
    المواضيع : 362
    الردود : 1570
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي بروق

    مَا إِنْ وَصَلَ حَامِدٌ مَشَارِفَ رُبُوعِ المَدِينَةِ التِّجَارِيَّةِ السَّاحِرَةِ "مدينة الحديدة" "القابعة فوق صهوة جواد اكحل" ، لِنَيْلِ طَلَبِهِ الَّذِي سَامَرَ أَسْمَاءَ وَنَادَمَهَا عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَعَشَتْ رُوحُهُ مِنْ جَدِيدٍ، كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَعْثَاءُ سَفَرٍ، وَلَا إِجْهَادُ سَهَرٍ.
    قَالَ: "بَهَرَتْنِي بِسِحْرِ أَضْوَائِهَا الزَّاهِيَةِ، وَشَوَارِعِهَا البَاهِيَةِ، وَهُدُوئِهَا البَاعِثِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ. كَانَتْ مُسْتَلْقِيَةً وَصَدْرُ البَحْرِ يَحْتَضِنُهَا مِنْ جِهَةِ الغَرْبِ وَذِرَاعَيْهِ تَمْتَدُّ إِلَى شِمَالِهَا وَجَنُوبِهَا، فَكَأَنَّهُ يَضُمُّهَا إِلَى صَدْرِهِ!!"
    وَخُيُوطُ وَجْهِ الشَّمْسِ تَلْثَمُهَا الرِّمَالُ
    عَلَى شَوَاطِئِكِ الْمُسَبِّحَةِ الْمَدِيدَة
    وَا للَّيْلُ يَتْلُو سُورَةَ الإِنْسَانِ مِنْ شَفَةِ
    النُّجُومِ وَيَنْتَقِي حُلْوَ النَّشِيدَة
    تَأْوِي النَّسَائِمُ بَيْنَ حِضْنِكِ مِثْلَمَا
    يُؤْوِي فُؤَادُكِ لِلْوَلِيدِ وَلِلْوَلِيدَة
    اتَّجَهْتُ غَرْبًا نَحْوَ البَحْرِ طَالِبًا مَنْزِلًا مُطِلًّا عَلَى شَطِّهِ الفَيْنَانِ.. لِصَدِيقٍ كَرِيمٍ أَوْقَفَهُ لِيَكُونَ مُنْتَجَعًا لِضُيُوفِهِ، وَمُتَنَزَّهًا لِأَصْدِقَائِهِ الوَافِدِينَ مِنْ مُدُنٍ أُخْرَى. كَانَ المَنْزِلُ فَارِغًا عِنْدَمَا وَصَلْتُهُ، إِلَّا مِنْ حَارِسٍ نَظَرَ إِلَى وَجْهِي مُتَفَحِّصًا، فَلَمَّا عَرَفَنِي ابْتَسَمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ، وَبَادَرَنِي بِالعِنَاقِ الحَارِّ، وَأَخَذَ أَمْتِعَتِي وَصَعِدَ بِي نَحْوَ غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ جِنَانِ الخُلْدِ، مُزَوَّدَةً بِكُلِّ مَا يَبْعَثُ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالمُتْعَةِ، مِنْ تَكْيِيفٍ بَارِدٍ، وَفُرُشٍ نَاعِمَةٍ، وَبَطَائِنَ وَثِيرَةٍ!
    سَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ، وَشَكَرْتُهُ عَلَى حَفَاوَتِهِ وَكَرَمِ اسْتِقْبَالِهِ، ابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً دَلَّتْ عَلَى انْبِسَاطِهِ وَسُرُورِهِ، ثُمَّ قَالَ وَهُوَ يَضَعُ أَغْرَاضِي عَلَى مَنْضَدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ: "هَذَا وَاجِبِي، وَأَنْتَ صَدِيقٌ مُقَرَّبٌ لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَوْصَانَا بِكَ مِرَارًا، فَهَذَا مَنْزِلُكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَشَاءُ، وَلَكَ أَنْ تَحُطَّ رَحْلَكَ فِيهِ كُلَّمَا وَصَلْتَ هَذِهِ المَدِينَةَ."
    ـ وَأَيْنَ مُحَمَّدٌ؟
    ـ مُسَافِرٌ بِالخَارِجِ.
    ـ كَمْ أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَيْهِ!
    ـ سَأَدَعُكَ تَسْتَرِيحُ، وَإِذَا احْتَجْتَ شَيْئًا، ارْفَعْ سَمَّاعَةَ الهَاتِفِ وَاضْغَطْ هَذَا الزِّرَّ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ عَلَيْهِ.
    ـ فَهَزَزْتُ رَأْسِي بِالمُوَافَقَةِ وَقُلْتُ لَهُ: "تُصْبِحُ عَلَى خَيْرٍ."
    ـ تَنَاوَلَ البَابَ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَانْصَرَفَ بِهُدُوءٍ.
    خَلَعْتُ مَلَابِسِي وَتَخَفَّفْتُ مِنْ حِمْلٍ كَانَ يُثْقِلُنِي رَغْمَ خِفَّتِهِ، فَقَدْ شَعَرْتُ بِشَيْءٍ يَجْذِبُنِي نَحْوَ السَّرِيرِ كَمَا تَجْذِبُ الأَرْضُ الشُّهُبَ عِنْدَ تَفَلُّتِهَا مِنْ زِمَامِ مَدَارِهَا المُتَّزِنِ. أَلْقَيْتُ بِنَفْسِي دُونَ مُبَالَاةٍ فِيهِ، وَمَا إِنْ اسْتَرَحْتُ قَلِيلًا، حَتَّى اسْتَنْهَضَنِي فَجْأَةً نُورٌ سَاطِعٌ عَجِيبٌ لَمْ أُشَاهِدْ مِثْلَهُ فِي حَيَاتِي، شَعَرْتُ وَكَأَنِّي أَطِيرُ سَابِحًا فِي فَضَائِهِ. كُنْتُ مُنْدَهِشًا عِنْدَمَا مَرَّ بِنَوَافِذِ الغُرْفَةِ المُطِلَّةِ عَلَى البَحْرِ، وَقَدْ تَلَأْلَأَ وَأَضَاءَ كُلَّ مَكَانٍ كَالبَرْقِ عِنْدَ كَثَافَةِ الغَيْمِ وَقَبْلَ نُزُولِ المَطَرِ، وَلَا غَيْمَ وَلَا مَطَرَ، فَنَحْنُ فِي بِدَايَةِ الصَّيْفِ. إِذًا فَمَاذَا يَا تَرَى هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟!!
    هَذَا النُّورُ العَجِيبُ، يَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ مُذْهِلٍ، أَشْعَرَنِي بِضَآلَةِ الإِنْسَانِ وَعَظَمَةِ الخَالِقِ. هَذَا اللَّيْلُ الَّذِي يَلُفُّ بِثَوْبِ سَوَادِهِ الرَّهِيبِ كُلَّ شَيْءٍ، هَا هُوَ قَابِضٌ بِسَوَادِهِ الدَّاكِنِ عَلَى البَرِّ وَالبَحْرِ وَالفَضَاءِ. لَقَدْ بَدَا لِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى غَوْرِهِ الرَّهِيبِ مَنْظَرًا مُدْهِشًا بَدِيعًا بَالِغَ الرَّوْعَةِ، إِنَّهُ مَنْظَرُ الجَلَالِ وَالهَيْبَةِ وَالعَظَمَةِ للهِ الَّذِي أَجِدُنِي أَنْجَذِبُ إِلَى سُبُحَاتِهِ.
    قَطَعَتْ حِبَالَ أَفْكَارِي مَوْجَاتُ النُّعَاسِ، وَسُرْعَانَ مَا أَحَاطَتْ بِي مِنْ كُلِّ اتِّجَاهٍ، وَانْسَدَلَ السِّتَارُ وَأُقْفِلَتِ العَيْنَانِ المُنْهِكَتَانِ أَبْوَابَهُمَا، وَذَهَبْتُ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ. مَا أَيْقَظَنِي إِلَّا أَذَانُ الفَجْرِ فِي نِدَائِهِ الأَخِيرِ لِلصَّلَاةِ. وَبَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ صَلَاتِي، حَمَلْتُ نَفْسِي بِقُوَّةٍ وَهِيَ تَتَثَاقَلُ إِلَى الأَرْضِ تُرِيدُ النَّوْمَ. خَرَجْتُ مِنْ فَوْرِي وَقَدِ ارْتَدَيْتُ مَلَابِسِي وَصَفَّفْتُ شَعْرِي دُونَ أَنْ أَعْتَنِي كَمَا يَنْبَغِي بِهِنْدَامِي.
    دَفَعَنِي العَجَلُ كَيْ أُدْرِكَ مُتْعَةَ مُشَاهَدَةِ الإِيلَاجِ بَيْنَ البَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَأُصَافِحَ أَنَامِلَ خُيُوطِ الفَجْرِ البَيْضَاءِ المُخَضَّبَةِ بِلَوْنِ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يَلِجَ النَّهَارُ فِيهِ وَيُغَادِرَ. وَصَلْتُ الشَّاطِئَ، وَأَخَذْتُ مَكَانِي فِي مُقَدِّمَةِ فِنَاءِ مَطْعَمِ الرُّوبِينِ المُطِلِّ عَلَى البَحْرِ مِنْ جِهَةِ السَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ وَتَنَاوَلْتُ الإِفْطَارَ هُنَاكَ وَكَانَ إِفْطَارًا شَهِيًّا - سَمَكٌ طَازَجٌ وَجُبْنٌ طَرِيٌّ - أَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ كُلَّمَا هَبَّتْ رِيَاحِي عَلَى شَطِّ هَذِهِ المَدِينَةِ السَّاحِرَةِ.
    كَانَ النَّشَاطُ يَفِيضُ بِي كَمَا يَفِيضُ المَوْجُ حَالَ ثَوْرَةِ البَحْرِ وَعُنْفُوَانِهِ، أَخَذْتُ جَوْلَةً لَا بَأْسَ بِهَا حَتَّى بَسَطَتِ الشَّمْسُ رِدَاءَهَا وَوَزَّعَتْ خُيُوطَ أَضْوَائِهَا الذَّهَبِيَّةَ عَلَى البَحْرِ وَالبَرِّ، وَالرَّابِيَةِ وَالتِّلِّ، كَمَا يُوَزِّعُ البَنَفْسَجُ أَرِيجَهُ عِنْدَ تَفَتُّقِ بَرَاعِمِهِ وَتَبَسُّمِ أَزْهَارِهِ.
    تَسَلَّلَتِ الشَّمْسُ عَلَى الشَّاطِئِ كَغَانِيَةٍ ذَهَبِيَّةٍ تَنْسِجُ ضَفَائِرَهَا مِنْ خُيُوطِ الضَّوْءِ عَلَى رَمْلِ البَحْرِ، وَتُلْقِي بِشَالِهَا المُذَهَّبِ عَلَى وَجْهِ المَدِينَةِ.
    وَبَيْنَمَا أَنَا أَشَمُّ رَائِحَةَ البَحْرِ وَأَغْسِلُ قَدَمَيَّ بِزَفَرَاتِ أَمْوَاجِهِ وَهِيَ تَنْقُلُ الزَّبَدَ إِلَى حَافَةِ شَطِّهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، رَنَّ جَرَسُ الهَاتِفِ. كَانَ المُتَّصِلُ صَدِيقِي مَاجِدٌ، تَوَاعَدْنَا ثُمَّ الْتَقَيْنَا عَلَى شَوْقٍ وَلَهْفَةٍ، الفَرَحُ يَغْمُرُنَا وَالسُّرُورُ يُظِلُّنَا. أَرَادَنِي - كَرِيمًا عَلَيْهِ - فِي دَارِهِ، فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقُلْتُ وَأَنَا أُشْبِعُ نَاظِرَيَّ بِطَلْعَتِهِ البَهِيَّةِ وَمُحَيَّاهُ المُشْرِقِ: "كَيْفَ نَتْرُكُ هَذَا النَّسِيمَ العَلِيلَ وَالإِشْرَاقَ الجَمِيلَ، وَنُحَاصَرُ بِجُدْرَانِ مَنْزِلِكَ المُتَلَثِّمِ بِحِيطَانِهِ، تَخَيَّرْ لَنَا مَكَانًا شَاعِرِيًّا يُشَارِكُنَا فَرْحَةَ لِقَائِنَا."
    وَفِي زَاوِيَةٍ مِنْ حَدِيقَةٍ عَامَّةٍ، كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ مَنْزِلِهِ، قَعَدْنَا نَحْتَسِي القَهْوَةَ وَتَبَادَلْنَا شَجِيَّ الحَدِيثِ - المُمْتَزِجِ بِعَوَاطِفِ الإِخَاءِ المُتَجَرَّدِ مِنْ كُلِّ مَطْمَعٍ - عَلَّنَا نُطْفِئُ ظَمَأَ الأَشْوَاقِ المُتَأَجِّجَةِ مِنْ طُولِ الفُرْقَةِ وَشِدَّةِ اللَّوْعَةِ. وَبَعْدَ حَدِيثِ الوِدَادِ وَالمُؤَانَسَةِ، هَبَّتْ رِيَاحُ الجِدِّ.
    ـ مَاجِدُ، مَا الَّذِي جَعَلَكَ تُغَيِّرُ رَأْيَكَ فِي المَشْرُوعِ؟
    ـ لَبَّيْكَ يَا حَامِدُ. لَقَدْ بُحَّ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِضُهُ عَلَى المُسْتَثْمِرِينَ دُونَ جَدْوَى، أَسْعَارُ المَوَادِّ الخَامِ مُرْتَفِعَةٌ، وَأَصْحَابُ رُؤُوسِ الأَمْوَالِ يَتَرَاجَعُونَ.
    ـ وَلِمَ لَا نَبْدَأُ بِمَبْلَغٍ بَسِيطٍ عَلَى عَجَلَةٍ وَلَا نَتَرَيَّثُ؟
    ـ هَذَا مَا أَقْتَرِحُهُ عَلَيْكَ، سَلِّمْنِي المَبْلَغَ وَأَنَا سَأَتَصَرَّفُ.
    ـ نَتَرَيَّثُ يَا مَاجِدُ! إِنَّ الوَاقِعَ مُنْكَسِرٌ، وَأَرْضَ الِاسْتِثْمَارِ غَيْرُ خِصْبَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَسِيرَ فِي دَرْبٍ مَلِيءٍ بِالصُّخُورِ.
    تَجَاذَبَتْنِي الحَيْرَةُ، وَتِهْتُ فِي شَوَارِعِ أَفْكَارِي!! بَيْنَ طَرِيقَيْنِ، طَرِيقِ الوَاقِعِ وَطَرِيقِ الدَّافِعِ!! بَحْثًا عَنْ مَرْفَأٍ يَرْسُو عَلَيْهِ قَرَارِي وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَفْكَارِي: هَلْ أَمْضِي فِي المَشْرُوعِ أَمْ أَنْصَرِفُ عَنْهُ؟.. فَالوَاقِعُ مُنْكَسِرٌ، وَتُرْبَةُ الِاسْتِثْمَارِ غَيْرُ خِصْبَةٍ، وَظُرُوفٌ مُتَقَلِّبَةٌ وَأَسْعَارٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَأُنَاسٌ يَنْهَشُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا تَنْهَشُ الوُحُوشُ الجَائِعَةُ فَرَائِسَهَا فِي مَعَارِكِ المَدِّ وَالجَزْرِ مِنْ أَجْلِ البَقَاءِ.
    وَبَيْنَ الرَّغْبَةِ فِي الوُصُولِ إِلَى بَسَاتِينِ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَحَدَائِقِ العَيْشِ الكَرِيمِ؛ لِنَجْنِيَ زَنَابِقَ العِزَّةِ، وَفَوَاكِهَ الكَرَامَةِ، تَحْتَ مَظَلَّةِ العِفَّةِ.. بَعِيدًا عَنْ وَحْلِ الذُّلِّ، وَمُسْتَنْقَعِ الفَاقَةِ.. وَبَعِيدًا عَنْ أَرْصِفَةِ البَطَالَةِ وَغُرَفِ الخُمُولِ وَأَسِرَّةِ الدَّعَةِ... فَعَلَى أَيِّ شَطٍّ أَرْسُو وَالأَمْوَاجُ مِنْ حَوْلِي عَاتِيَةٌ؟ وَذَاكِرَتِي تَسْتَدْعِي صُوَرَ الإِشْرَاقِ وَالإِخْفَاقِ، فَأُحَلِّقُ حِينًا وَأُخْفِتُ حِينًا آخَرَ.
    وَمَا زَالَتْ صَفْقَةُ جَارِنَا الحَاجِّ مُحَمَّدٍ مَحْفُورَةً فِي ذَاكِرَتِي كَمَا يَحْفِرُ المَاءُ الصَّخْرَ!!. فَبِمُجَرَّدِ وُصُولِ بِضَاعَتِهِ، خَفَّضَ المُوَرِّدُ المُحْتَكِرُ نَبْهَانُ أَسْعَارَهُ بِأَقَلَّ مِنْ تَكْلُفَةِ شِرَائِهِ؛ كَيْ يُصِيبَهُ بِمَقْتَلٍ؛ وَيَئِدَ طُمُوحَهُ إِلَى الأَبَدِ، وَتَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ؛ كَسَدَتْ بِضَاعَتُهُ وَخَابَ فَأْلُهُ، وَظَلَّ يَعْرِضُهَا حَتَّى انْتَهَى تَارِيخُ صَلَاحِيَّتِهَا، وَتَمَّ إِتْلَافُهَا فِي مَحْرَقَةِ الِاحْتِكَارِ وَالجَشَعِ، جِوَارَ سُوقِ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ ضَمِيرٌ وَلَا وَازِعٌ مِنْ دِينٍ، أَتْلَفَتْهَا الأَنَانِيَّةُ وَنِيرَانُ الأَطْمَاعِ... وَمَعَهَا آمَالُ الحَاجِّ مُحَمَدٍ وَأَحْلَامُهُ.
    قِصَّةُ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ: مُؤَامَرَةُ الغُرُوبِ
    هَمَسَتْ لِي ذَاكِرَتِي، وَهِيَ تُقَلِّبُ صَفَحَاتِ المَاضِي: "تَذَكَّرْ يَا حَامِدُ، كَيْفَ وَصَلَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ إِلَى المِينَاءِ بِقَلْبٍ يَفِيضُ طُمَأْنِينَةً، وَكَيْفَ اسْتَقْبَلَهُ المَوْظَفُونَ بِالتَّرْحَابِ؟ لَكِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَرصَّدُ خُطُوَاتِهِ، نَبْهَانُ، الَّذِي لَا يُطِيقُ أَنْ يُشَارِكَهُ أَحَدٌ عَرْشَ تِجَارَتِهِ، وَذِرَاعُهُ اليُمْنَى سَالِمٌ، الَّذِي كَانَ يَرَى فِي إِفْلَاسِ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ طَرِيقًا مُخْتَصَرًا لِوِرَاثَةِ عَرْشِ عَمِّهِ.
    لَمْ يَكْتَفِ نَبْهَانُ بِتَأْخِيرِ الشُّحْنَةِ، بَلْ اسْتَخْدَمَ سِلَاحَ الإِشَاعَاتِ المَسْمُومَةِ، وَأَرْسَلَ صَدِيقَ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ القَدِيمَ، عُثْمَانَ، الَّذِي بَاعَهُ اليَأْسُ وَالفَقْرُ، لِيَكُونَ طُعْمًا فِي شِبَاكِ مُؤَامَرَتِهِمْ. كَانَ عُثْمَانُ يَتَحَدَّثُ بِحُرْقَةِ الصَّدِيقِ الَّذِي يَخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ، بَيْنَمَا يُغْرِيهِ بِبَيْعِ البِضَاعَةِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.
    كَانَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ صَامِدًا، لَكِنَّ إِعْلَانَ نَبْهَانَ المُفَاجِئَ عَنْ تَخْفِيضِ أَسْعَارِهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِ الشِّرَاءِ، كَانَ بِمَثَابَةِ القَشَّةِ الَّتِي قَصَمَتْ ظَهْرَ البَعِيرِ. رَأَيْتُ الحَاجَّ مُحَمَّدًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ التُّجَّارِ كَطَائِرٍ مَكْسُورِ الجَنَاحِ، يُحَاوِلُ بَيْعَ بِضَاعَتِهِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا القَدَرُ أَنْ تُصْبِحَ طَعَامًا لِلنِّيرَانِ. لَمْ يَكُنْ صِرَاعًا مِنْ أَجْلِ البَقَاءِ، بَلْ كَانَ إِفْنَاءً عَمْدًا لِأَحْلَامِهِ وَآمَالِهِ، حُفِرَتْ فِي قَلْبِي كَخِنْجَرٍ مَسْمُومٍ.
    فِي النِّهَايَةِ، تَمَّ إِتْلَافُ البِضَاعَةِ، وَلَكِنَّ الأَدْهَى هُوَ أَنَّ سَالِمًا قَدْ اشْتَرَى مَا تَبَقَّى مِنْهَا لِيُعِيدَ بَيْعَهُ، بَيْنَمَا كَانَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ يُكَافِحُ المَرَضَ الَّذِي نَهَشَ جَسَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْهَشَ مَالَهُ. كَانَتْ عَيْنَاهُ تَحْمِلَانِ قِصَّةً أَكْبَرَ مِنْ مُجَرَّدِ خَسَارَةٍ تِجَارِيَّةٍ؛ قِصَّةَ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، وَدَرْسًا قَاسِيًا عَنْ عَالَمٍ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلْبَرَاءَةِ.
    وَبَعْدَ أَنْ نَالَ مِنْهُ المَرَضُ وَتَثَاقَلَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، جَمَعَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ ابْنَهُ تَامِرًا لِيُوَدِّعَهُ، كَانَتْ كَلِمَاتُهُ أَشْبَهَ بِالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ أَنْهَكَتْهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَوْتُهُ يُكَابِدُ آلَامَ الجَسَدِ لِيُهْدِيَ دَرْبًا لِابْنِهِ.
    وَصِيَّةُ الغُرُوبِ
    "يَا بُنَيَّ...
    كُنْ جَابِرًا لِلْقُلُوبِ، سَاتِرًا لِلْعُيُوبِ، صَبُورًا فِي النَّوَائِبِ، جَسُورًا فِي الشَّدَائِدِ، طَلْقَ المُحَيَّا عَظِيمَ الخُلُقِ، لَا يَحْجُبُكَ عَنِ الفَضَائِلِ حَاجِبٌ، وَلَا يَخِيبُ عِنْدَكَ طَالِبٌ، وَلَا يُضَرُّ بِكَ قَرِيبٌ وَلَا صَاحِبٌ. فَإِنَّ النُّفُوسَ الكَبِيرَةَ تَأْنَفُ الصِّغَارَ، وَلَا تَأْبَهُ أَمَامَ غَايَتِهَا النَّبِيلَةِ مِنَ اقْتِحَامِ المَخَاطِرِ وَالأَهْوَالِ، وَلَا تَضْنَى بِمَثَاقِيلِ الجِبَالِ وَكَثْرَةِ الأَحْمَالِ... تَتَخَطَّى حُدُودَ المُمْكِنِ وَغَيْرِ المُمْكِنِ بِعَزِيمَتِهَا الفُولَاذِيَّةِ لِتَتَجَاوَزَ الأَزْمَانَ وَالأَجْيَالَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى غَايَتِهَا وَإِلَى اللهِ.
    يَا بُنَيَّ...
    كُنْ عَظِيمَ الحُلْمِ قَوِيَّ الشَّكِيمَةِ، صَلْبَ الإِرَادَةِ قَوِيَّ العَزِيمَةِ، صَلْدًا كَالرَّوَاسِي، لَا تَهُزُّكَ العَوَارِضُ، وَلَا تَمْنَعُكَ المَوَانِعُ عَنْ قَصْدِكَ النَّبِيلِ وَغَايَتِكَ النَّبِيلَةِ بِوَسَائِلَ مَشْرُوعَةٍ. قَدَمُكَ فِي الثَّرَى، وَهَامَتُكَ فِي الثُّرَيَّا، لِيَكُنْ قَلْبُكَ الغَضُّ مُطْمَئِنًّا عَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ. وَإِنْ أَحَاطَ بِكَ أَمْرٌ تَخَافُهُ أَوْ مَحْذُورٌ تَخْشَاهُ فَرَدِّدْ مَقُولَةَ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلَامُ): {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
    يَا بُنَيَّ...
    كُنْ أَمِينًا إِذَا نَقَلْتَ كَلَامًا، صَادِقًا إِذَا حَدَّثْتَ، وَفِيًّا إِذَا عَاهَدْتَ. لَا تَغُشَّ فِي وَزْنٍ وَلَا مِيزَانٍ، وَلَا تَحْتَكِرْ سِلْعَةً لِتُرْهِقَ بِهَا النَّاسَ، فَإِنَّ رِزْقَ اللهِ وَاسِعٌ. لَا تُهَوِّنِ المَلِيحَ، وَلَا تُهَوِّلِ القَبِيحَ، تَجْمَعْ وَلَا تُفَرِّقْ، تَبْنِي وَلَا تَهْدِمْ، تَجْبُرْ وَلَا تَكْسِرْ، تُؤَلِّفْ وَلَا تُحَرِّفْ، تُقَوِّي الضَّعِيفَ وَتُدَاوِي الجَرِيحَ، وَتُظْهِرُ المَلِيحَ وَتَلْتَمِسُ العُذْرَ لِلْقَبِيحِ بِرُتُوشِ صِدْقٍ وَبَلَاغَةِ فَصِيحٍ، فَذَلِكَ مِنْ نُبْلِ المَقَاصِدِ، لِنَيْلِ المَفَاوِزِ. وَحَذَارِ مِنَ التَّفْرِيطِ، فَإِنَّ أَمَانَةَ القَوْلِ عُنْوَانُ نُبْلِكَ، وَسُمُوُّ فَضْلِكَ، وَبِهَا هَلَاكُكَ أَوْ نَجَاتُكَ.
    فَكَمْ يُسْقِطُ أَقْوَامًا وَيَرْفَعُ آخَرِينَ، وَكَمْ تُبْلَى الأَقْوَالُ وَالأَفْهَامُ بِعَيْنِ الرِّضَا وَالسُّخْطِ. وَتَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا إِلَّا تَبَعًا لِغَايَةٍ نَبِيلَةٍ وَمَسْلَكٍ شَرِيفٍ، فَكَيْفَ نَبِيعُ الأُخْرَى بِهَا، فَكُنْ مُنْصِفًا بِوَصْفِكَ، صَادِقًا بِقَوْلِكَ أَمِينًا بِنَقْلِكَ. حَصِيفًا بِفَهْمِكَ مُتَجَرِّدًا مِنْ حَظِّ نَفْسِكَ، لَا تَرْجُو مَحْمَدَةً وَلَا تَخَافُ مَذَمَّةً، اللهُ مُرَادُكَ وَالهُدَى غَايَتُكَ، دَرْءًا لِمَفْسَدَةٍ وَجَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ، وَلْيَكُنْ سَيْرُكَ عَلَى هُدًى وَنُورٍ، بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ، وَنَفْسٍ وَقُورَةٍ، عَنْ قَصْدٍ وَنِيَّةٍ وَتَجَرُّدٍ وَحِكْمَةٍ، لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْكَ المُتَشَابِهَاتُ، وَلَا تَسْتَعْصِي عَلَيْكَ المُحْكَمَاتُ، تُفَرِّقُ بَيْنَ الغُثَاءِ وَالسَّمِينِ وَالصَّوَابِ وَالخَطَأِ، حَسْبُكَ اللهُ وَالإِحْسَانُ غَايَتُكَ، وَإِنْ تَشَابَكَتِ المَوَازِينُ.
    فَكُنْ فَاحِصًا لِكُلِّ مَا تَقُولُ، وَحَارِسًا لِكُلِّ مَا تَطُولُ، فَإِنَّ الزَّلَلَ مَذَمَّةٌ، وَالإِحْسَانَ مَحْمَدَةٌ، فَمَنْ عَمِيَ فَلْيَدَعْ، وَمَنْ غُمِّيَ عَلَيْهِ فَلْيُغَادِرْ، اسْتِكْمَالًا لِلتَّأْهِيلِ، وَاسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ.
    يَا بُنَيَّ...
    إِنَّ الطَّاعَةَ مَعْرُوفٌ، وَالمَعْصِيَةَ مُنْكَرٌ، فَلَا تَعْصِ مَنْ أُمِرْتَ بِطَاعَتِهِ، فَالْعِصْيَانُ إِفْلَاسٌ وَالطَّاعَةُ نِبْرَاسٌ، عَلَيْكَ بِمَا يُلَطِّفُ وَلَا يُجَرِّفُ، وَيُقَرِّبُ وَلَا يُبَاعِدُ، فَذَلِكَ هُوَ الدِّينُ وَبِهِ أُمِرْنَا. وَاجْعَلِ التَّقْوَى مَرْكَبَكَ، وَالإِتْقَانَ شِرَاعَكَ، فَلَا يَظِلَّ مَعَ التَّقْوَى أَبِيٌّ، وَلَا يَزِيغَ مَعَ الإِتْقَانِ نَدِيٌّ. كُنْ أَمِينًا فِي تِجَارَتِكَ، صَادِقًا فِي سَعْرِكَ، وَلَا تَبِعْ مَا لَا تَمْلِكُ. وَهَا أَنَا مُفَارِقٌ فَخُذْ مَا أَتَيْتُكَ بِقُوَّةٍ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، فَإِنِّي مُسْتَوْدِعُكَ مَنْ لَا تَضِيعُ عِنْدَهُ الوَدَائِعُ، فَهُوَ خَيْرٌ حَافِظًا لِمَا أَوْلَانِي وَأَوْلَاكَ، وَهُوَ المُرَجَّى لِرَجَاكَ، وَالمُعِيذُ لِمَخْشَاكَ. وَالقُرْآنُ حَدِيثُهُ إِلَيْكَ، وَنُورٌ بَيْنَ يَدَيْكَ، يَقِيكَ المَزَالِقَ، وَيَكْفِيكَ العَوَائِقَ، فَكُنْ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، وَاتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَخُصَّهُ عِنْدَ صَفَاءِ البَالِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطِي إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُعْطَىَ، وَكُنْ مَعَ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ، وَآنٍ، يَكُنْ مَعَكَ فِي كُلِّ حَالٍ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَآنٍ".
    ثُمَّ الْتَقَطَتْ كَامِيرَا ذَاكِرَتِي صُوَرَ الأَحْدَاثِ المُدْهِشَةِ، لِتِجَارَةِ سَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ فِي مَشْرُوعِهِمُ الغَامِضِ الَّذِي أُقِيمَ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ أُعْرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ مَحْمُولًا عَلَى أَكْتَافِ المُعَصِّرَاتِ، تَهَوْدَجُهُ الرِّيَاحُ مِنَ اليَمِينِ إِلَى اليَسَارِ، وَتَرْمُقُهُ العُيُونُ المُتَّكِئَةُ عَلَى الثِّقَةِ فَتَصْمُتُ وَلَا تُلْقِي لَهُ بَالًا؛ كَأَنَّهَا لَا تَخْشَى عَلَيْهِ السُّقُوطَ السَّحِيقَ الَّذِي سَيُفَتِّتُهُ وَيُمَزِّقُهُ بِمُجَرَّدِ ارْتِطَامِهِ بِالأَرْضِ!!.
    أَرْوِي يَا ذَاكِرَتِي فَقَدْ شَوَّقْتِنِي لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ.
    لَمْ تُسْعِفْنِي ذَاكِرَتِي فَقَدْ بَلَغَ بِي الجُوعُ مَبْلَغَهُ، لَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَعَصَافِيرُ أَمْعَائِي تَتَضَوَّرُ جُوعًا وَتَطْلُبُ مُسْتَغِيثَةً، مَا يَسُدُّ خَلَّتَهَا، وَيُشْبِعُ فَاقَتَهَا، فَقَدْ تَنَاسَيْتُهَا - فِي زَحْمَةِ أَسْوَاقِ شُرُودِي. تَنَاوَلْتُ بَعْضَ الفَوَاكِهِ وَالمَشْرُوبَاتِ الَّتِي كُنْتُ قَدْ أَحْضَرْتُهَا مِنْ بَقَّالَةٍ مَرَرْتُ بِهَا، سَكَنَ جُوعِي وَهَدَأَتْ عَصَافِيرُ بَطْنِي وَعُدْتُ إِلَى تِلْكَ الأَسْوَاقِ مُطَالِبًا ذَاكِرَتِي بِمَزِيدٍ مِنَ العَرْضِ قَائِلًا لَهَا:
    خُطِّي يَا أَقْلَامَ الرُّوحِ مَعَانِيَ الحُبِّ العَذْبِ وَثُورِي
    شُقِّي دَرْبًا فِي الآفَاقِ الآنَ وَطِيرِي
    دُكِّي جُدُرَ الصَّمْتِ وَمُدِّي فِي رَحِمِ الآفَاقِ جُسُورِي
    يَا عُمْرَ الحُلْمِ المَأْمُولِ بِأَيَّامِ نَشَاطِي وَفُتُورِي
    قِصَّةُ سَمِيرٍ: شِرَاكُ الهَوَاءِ المَسْمُومِ
    كَانَ سَمِيرٌ شَابًّا حَالِمًا، يَعْمَلُ فِي مَجَالِ التِّجَارَةِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ مَعَ مَجْمُوعَةٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ الطَّمُوحِينَ. مَشْرُوعُهُمْ كَانَ غَامِضًا، يَعْتَمِدُ عَلَى تَسْوِيقِ "مُنْتَجٍ سِرِّيٍّ" يُشَاعُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الخَارِجِ بِسِعْرٍ خَيَالِيٍّ. كَانَ حَامِدٌ يَعْرِفُ سَمِيرًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِرَايَةٍ بِتَفَاصِيلِ مَشْرُوعِهِ، وَكَانَ يَرَاهُ مِثَالًا عَلَى المُغَامَرَةِ المَحْفُوفَةِ بِالمَخَاطِرِ.
    بَدَأَتِ القِصَّةُ بِجَمْعِ فَارِسَ، قَائِدِ المَجْمُوعَةِ، لِأَمْوَالِ سَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ، مُقْنِعًا إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ سَيَقُومُونَ "بِشِرَاءِ كَمِّيَّاتٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الهَوَاءِ النَّقِيِّ المُعَبَّأِ" فِي قَوَارِيرَ خَاصَّةٍ مِنْ مِنْطَقَةٍ جَبَلِيَّةٍ نَائِيَةٍ، وَأَنَّ هَذَا "الهَوَاءَ" يُبَاعُ فِي الدُّوَلِ الكُبْرَى بِأَسْعَارٍ بَاهِظَةٍ كَعِلَاجٍ لِلِاكْتِئَابِ. أُطْلِقَ عَلَى الشَّرِكَةِ اسْمُ "المُعَصِّرَاتِ".
    تُوَالَتْ "شُحْنَاتُ الهَوَاءِ" عَبْرَ شَرِكَةِ شَحْنٍ دَوْلِيَّةٍ، وَأَظْهَرَ فَارِسُ لِسَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ صُوَرًا وَفِيدِيُوهَاتٍ تُظْهِرُ نَجَاحَ "مَشْرُوعِهِمْ" فِي الخَارِجِ، مُدَّعِيًا أَنَّ الطَّلَبَ هَائِلٌ. لَكِنَّ الحَقِيقَةَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا؛ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ شُحْنَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ، بَلْ كَانَتْ مُجَرَّدَ عَمَلِيَّةِ احْتِيَالٍ مُعَقَّدَةٍ، حَيْثُ يَقُومُ فَارِسُ بِبَيْعِ قَوَارِيرَ فَارِغَةٍ فِي سُوقٍ سَوْدَاءَ مَحَلِّيَّةٍ صَغِيرَةٍ، مُتَجَنِّبًا أَيَّ تَسْجِيلٍ رَسْمِيٍّ لِلْمَشْرُوعِ.
    بَدَأَتْ نُورَةُ بِالشَّكِّ عِنْدَمَا اكْتَشَفَتْ أَنَّ أَرْبَاحَهُمْ لَا تَتَطَابَقُ مَعَ حَجْمِ المَبِيعَاتِ المَزْعُومِ، وَأَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ مَعَهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ. حَاوَلَتْ نُورَةُ تَحْذِيرَ سَمِيرٍ وَرَائِدٍ، لَكِنَّهُمَا يَرْفُضَانِ تَصْدِيقَهَا، مُتَّهِمَيْنِ إِيَّاهَا بِالغَيْرَةِ.
    تَتَفَاقَمُ الأَزْمَةُ عِنْدَمَا يَطْلُبُ فَارِسُ مِنَ المَجْمُوعَةِ جَمْعَ المَزِيدِ مِنَ المَالِ لِشِرَاءِ "شُحْنَةٍ أَكْبَرَ"، وَوَعَدَهُمْ بِمِلْكِيَّةِ جُزْءٍ مِنَ الشَّرِكَةِ. يُعْطِي سَمِيرٌ كُلَّ مَا يَمْلِكُ، وَيَقْتَرِضُ مِنْ عَائِلَتِهِ، بِمَا فِي ذَلِكَ وَالِدَتُهُ المَرِيضَةُ.
    فِي النِّهَايَةِ، يَخْتَفِي فَارِسُ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ كُلَّ الأَمْوَالِ، تَارِكًا سَمِيرًا وَرِفَاقَهُ فِي مُوَاجَهَةِ دُيُونٍ ضَخْمَةٍ. يُدْرِكُ سَمِيرٌ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَرَاهُ كَانَ مُجَرَّدَ "شِرَاكٍ هَوَائِيٍّ مَسْمُومٍ"، وَأَنَّ كُلَّ الأَرْقَامِ كَانَتْ وَهْمِيَّةً. هَذَا الإِفْلَاسُ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مُنَافَسَةٍ أَوْ ظُرُوفِ سُوقٍ، بَلْ كَانَ نَتِيجَةَ جَشَعٍ وَطَمَعِ شَخْصٍ اسْتَغَلَّ أَحْلَامَهُمْ.
    كَانَتْ قِصَّةُ سَمِيرٍ حَادِثَةً مُرْهِقَةً فِي ذَاكِرَةِ حَامِدٍ. فَلَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ قِصَّةِ فَشَلٍ عَابِرَةٍ، بَلْ بَقِيَتْ عُقْدَةٌ لَمْ تُحَلَّ. كَانَ سَمِيرٌ يَعُودُ دَائِمًا بِتَفَاصِيلَ غَامِضَةٍ عَنْ فَارِسَ، قَائِدِ المَجْمُوعَةِ. كَانَ فَارِسُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُحْتَالٍ، بَلْ شَخْصِيَّةً مُحَيِّرَةً لَهَا صِلَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
    فِي إِحْدَى المَرَّاتِ، أَخْبَرَ سَمِيرٌ حَامِدًا بِأَنَّهُ سَيَكْتَشِفُ حَقِيقَةَ فَارِسَ، وَأَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِشَخْصِيَّاتٍ مُهِمَّةٍ فِي المَدِينَةِ. وَأَنَّ لِلْفَشَلِ الذِي حَدَثَ مَعَهُمْ يَدًَا فِي قِصَصٍ أُخْرَى لَمْ تَظْهَرْ بَعْدُ. وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ سَمِيرٌ مِنْ كَشْفِ المَزِيدِ، اخْتَفَى فَجْأَةً، مُخَلِّفًا وَرَاءَهُ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ مِنْ أَجْوِبَةٍ. هَلِ اخْتَفَى خَوْفًا؟ أَمْ كَانَ جُزْءًا مِنْ مُؤَامَرَةٍ أَكْبَرُ مِمَّا تَصَوَّرَهُ الجَمِيعُ؟
    هَذَا الغُمُوضُ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَامِدٌ. فَلَمْ يَكُنِ الفَشَلُ هُوَ النُّقْطَةَ، بَلْ عَدَمُ مَعْرِفَةِ سَبَبِهِ الحَقِيقِيِّ.

    لَقَدْ كَانَتْ قِصَّتَا الحَاجِّ مُحَمَّدٍ وَسَمِيرٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَمَامًا، وَهَذَا هُوَ سِرُّ قَرَارِ حَامِدٍ. لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَا فَشَلٍ مُتَطَابِقَتَانِ، بَلْ دَرْسَانِ مُنْفَصِلَانِ. قِصَّةُ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ كَانَتْ عَنِ الغَدْرِ وَالِاحْتِكَارِ فِي عَالَمِ التِّجَارَةِ التَّقْلِيدِيِّ، بَيْنَمَا قِصَّةُ سَمِيرٍ كَانَتْ عَنْ خِيَانَةِ الثِّقَةِ وَالِاحْتِيَالِ فِي عَالَمِ الأَعْمَالِ المُخَادِعَةِ.
    أَدْرَكَ حَامِدٌ بِبَصِيرَتِهِ أَنَّ فَشَلَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَاجِمًا عَنِ المَشَارِيعِ ذَاتِهَا، بَلْ عَنِ العَامِلِ البَشَرِيِّ. فَالْحَاجُّ مُحَمَّدٌ وَقَعَ ضَحِيَّةَ مَنَاهِجَ غَيْرِ شَرِيفَةٍ وَأَخْلَاقٍ فَاسِدَةٍ، فِي حِينِ أَنَّ سَمِيرًا غَامَرَ بِشَكْلٍ أَعْمَى وَوَثِقَ فِي شَخْصٍ مَجْهُولِ الهُوِيَّةِ.
    ستَجَنَّبَ حَامِدٌ نَفْسَ الأَخْطَاءِ. فَمَشْرُوعُهُ كَانَ بِنَاءً عَلَى دِرَاسَةٍ وَتَحْلِيلٍ، وَشَرِيكُهُ كَانَ صَدِيقَ عُمْرِهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ. لَمْ يَكُنِ المَشْرُوعُ وَهْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا فَصْلٍ، بَلْ حَقِيقَةً مَلْمُوسَةً.
    لَمْ يُلْغِ حَامِدٌ مَخَاطِرَ العَمَلِ، بَلْ ظن انه تَعَلَّمَ كَيْفَ يُوَاجِهُهَا بِتَجَنُّبِ الأَخْطَاءِ الَّتِي أَوْدَتْ بِالآخَرِينَ. فَقَرَّرَ أَنْ لَا يَكُونَ مَسْجُونًا لِذِكْرَيَاتِ الفَشَلِ، بَلْ يَنْطَلِقُ مِنْهَا كَمِنَصَّةِ انْطِلَاقٍ لِتَحْقِيقِ نَجَاحٍ مُخْتَلِفٍ.
    وَبَعْدَ صِرَاعٍ دَاخِلِيٍّ طَوِيلٍ، وَأَمَامَ ثِقَةِ صَدِيقِهِ وَرَغْبَةِ زَوْجَتِهِ، وَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَنْ يَنْعَمَ إِلَّا بِالمُخَاطَرَةِ، رَفَعَ حَامِدٌ هَاتِفَهُ وَأَرْسَلَ رِسَالَةً قَصِيرَةً لِأَسْمَاءَ يَقُولُ فِيهَا: "لَا تَقْلَقِي، سَنَبْدَأُ المَشْرُوعَ بِإِذْنِ اللهِ".

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,769
    المواضيع : 383
    الردود : 22769
    المعدل اليومي : 4.76

    افتراضي

    جميل ما قرأت هنا بلغة معبرة وسرد جذاب
    وقد أبدعت في رسم مشهد مدينة الحديدة فسحرتنا
    بوصف رائع بلغة متينة بنسق شعري حمعت بين
    أناقة المفردة وجمال الصورة وقوة العبارة
    ثم جائت قصة المشروع الذي يفكر أن يبدأ فيه هو وصاحبه
    وتاهت أفكاره بين أن يمضي في مشروعه أم ينصرف عته
    وقد استدعت ذاكرته قصة الحاج محمد الذي أخفق نتيجة
    للغدر والخداع والأحتكار في عالم التجارة التقليدي
    وقصة سمير الذي كات إخفاقه نتيجة لخيانة الثقة والأحتيال
    في عالم الأعمال المخادعة
    فأدرك أنَّ فَشَلَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَاجِمًا عَنِ المَشَارِيعِ ذَاتِهَا، بَلْ عَنِ العَامِلِ البَشَرِيِّ.
    فَالْحَاجُّ مُحَمَّدٌ وَقَعَ ضَحِيَّةَ مَنَاهِجَ غَيْرِ شَرِيفَةٍ وَأَخْلَاقٍ فَاسِدَةٍ،
    فِي حِينِ أَنَّ سَمِيرًا غَامَرَ بِشَكْلٍ أَعْمَى وَوَثِقَ فِي شَخْصٍ مَجْهُولِ الهُوِيَّةِ.
    فقرر أن يخوض التجربة بتجنبه للأخطاء التي أودت بالآخرين
    وقرر أن ينطلق لتحقيق نجاح مختلف.

    القصة جميلة جدا ولكن لي بعض الملاحظات
    مثلا الأسهاب والأطالة كان ممكن تكثيفهم والتركيز في السرد
    وتلك العظات التي أوعظ بها محمد ولده ورغم روعتها وبلاغة لغتها
    وجمال معناها لكنها لم يكن لها هنا مكان في القصة.
    شكرا لك على نص جاذب قال الكثير مما جعل من القصة
    مقالة نقدية عميقة
    ولك كل التحية والتقدير
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    واسمح لي بأن انقلها إلى قسم القصة.

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    المشاركات : 1,570
    المواضيع : 362
    الردود : 1570
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي

    أشكرك من كل قلبي ويكفي اني استفت منك لانزع تلك الموعضه

  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2011
    المشاركات : 1,570
    المواضيع : 362
    الردود : 1570
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي

    7- رحلة في شوارع الذاكرة (1)
    مَا إِنْ وَصَلَ حَامِدٌ مَشَارِفَ رُبُوعِ المَدِينَةِ التِّجَارِيَّةِ السَّاحِرَةِ "القابعة فوق صهوة جواد أكحل"، حَتَّى انْتَعَشَتْ رُوحُهُ مِنْ جَدِيدٍ، كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَعْثَاءُ سَفَرٍ، وَلَا إِجْهَادُ سَهَرٍ.
    قَالَ: "بَهَرَتْنِي بِسِحْرِ أَضْوَائِهَا الزَّاهِيَةِ، وَشَوَارِعِهَا البَاهِيَةِ، وَهُدُوئِهَا البَاعِثِ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ. كَانَتْ مُسْتَلْقِيَةً وَصَدْرُ البَحْرِ يَحْتَضِنُهَا مِنْ جِهَةِ الغَرْبِ وَذِرَاعَيْهِ تَمْتَدُّ إِلَى شِمَالِهَا وَجَنُوبِهَا، فَكَأَنَّهُ يَضُمُّهَا إِلَى صَدْرِهِ!!" كانت الساعة التاسعه مساءً تقريباً.
    وَخُيُوطُ وَجْهِ اللَّيْلِ تَلْثَمُهَا الرِّمَالُ، عَلَى شَوَاطِئِكِ الْمُسَبِّحَةِ الْمَدِيدَة. وَاللَّيْلُ يَتْلُو سُورَةَ الإِنْسَانِ مِنْ شَفَةِ النُّجُومِ وَيَنْتَقِي حُلْوَ النَّشِيدَة. تَأْوِي النَّسَائِمُ بَيْنَ حِضْنِكِ مِثْلَمَا يُؤْوِي فُؤَادُكِ لِلْوَلِيدِ وَلِلْوَلِيدَة. وعلى استراحاتِ الحياةِ حَمَلَتْنِي طِفْلاً وَمَا زَالَتْ خِلَالُكِ يَا حَدِيدَة. إِنَّهَا مَدِينَةُ المَدِينَاتِ وَجَمِيلَةُ الجَمِيلَاتِ.
    اتَّجَهْتُ غَرْبًا نَحْوَ البَحْرِ طَالِبًا مَنْزِلًا مُطِلًّا عَلَى شَطِّهِ الفَيْنَانِ.. لِصَدِيقٍ كَرِيمٍ أَوْقَفَهُ لِيَكُونَ مُنْتَجَعًا لِضُيُوفِهِ، وَمُتَنَزَّهًا لِأَصْدِقَائِهِ الوَافِدِينَ مِنْ مُدُنٍ أُخْرَى. كَانَ المَنْزِلُ فَارِغًا عِنْدَمَا وَصَلْتُهُ، إِلَّا مِنْ حَارِسٍ نَظَرَ إِلَى وَجْهِي مُتَفَحِّصًا، فَلَمَّا عَرَفَنِي ابْتَسَمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ، وَبَادَرَنِي بِالعِنَاقِ الحَارِّ، وَأَخَذَ أَمْتِعَتِي وَصَعِدَ بِي نَحْوَ غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا مِنْ جِنَانِ الخُلْدِ، مُزَوَّدَةً بِكُلِّ مَا يَبْعَثُ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالمُتْعَةِ، مِنْ تَكْيِيفٍ بَارِدٍ، وَفُرُشٍ نَاعِمَةٍ، وَبَطَائِنَ وَثِيرَةٍ!
    سَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ، وَشَكَرْتُهُ عَلَى حَفَاوَتِهِ وَكَرَمِ اسْتِقْبَالِهِ، ابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً دَلَّتْ عَلَى انْبِسَاطِهِ وَسُرُورِهِ، ثُمَّ قَالَ وَهُوَ يَضَعُ أَغْرَاضِي عَلَى مَنْضَدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ: "هَذَا وَاجِبِي، وَأَنْتَ صَدِيقٌ مُقَرَّبٌ لِفَاهِمٍ، وَقَدْ أَوْصَانَا بِكَ مِرَارًا، فَهَذَا مَنْزِلُكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَشَاءُ، وَلَكَ أَنْ تَحُطَّ رَحْلَكَ فِيهِ كُلَّمَا وَصَلْتَ هَذِهِ المَدِينَةَ."
    ـ وَأَيْنَ فَاهِمٌ؟
    ـ مُسَافِرٌ بِالخَارِجِ.
    ـ كَمْ أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَيْهِ!
    ـ سَأَدَعُكَ تَسْتَرِيحُ، وَإِذَا احْتَجْتَ شَيْئًا، ارْفَعْ سَمَّاعَةَ الهَاتِفِ وَاضْغَطْ هَذَا الزِّرَّ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ عَلَيْهِ.
    ـ فَهَزَزْتُ رَأْسِي بِالمُوَافَقَةِ وَقُلْتُ لَهُ: "تُصْبِحُ عَلَى خَيْرٍ."
    ـ تَنَاوَلَ البَابَ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ وَانْصَرَفَ بِهُدُوءٍ.
    خَلَعْتُ مَلَابِسِي وَتَخَفَّفْتُ مِنْ حِمْلٍ كَانَ يُثْقِلُنِي رَغْمَ خِفَّتِهِ، فَقَدْ شَعَرْتُ بِشَيْءٍ يَجْذِبُنِي نَحْوَ السَّرِيرِ كَمَا تَجْذِبُ الأَرْضُ الشُّهُبَ عِنْدَ تَفَلُّتِهَا مِنْ زِمَامِ مَدَارِهَا المُتَّزِنِ. أَلْقَيْتُ بِنَفْسِي دُونَ مُبَالَاةٍ فِيهِ، وَمَا إِنْ اسْتَرَحْتُ قَلِيلًا، حَتَّى اسْتَنْهَضَنِي فَجْأَةً نُورٌ سَاطِعٌ عَجِيبٌ لَمْ أُشَاهِدْ مِثْلَهُ فِي حَيَاتِي، شَعَرْتُ وَكَأَنِّي أَطِيرُ سَابِحًا فِي فَضَائِهِ. كُنْتُ مُنْدَهِشًا عِنْدَمَا مَرَّ بِنَوَافِذِ الغُرْفَةِ المُطِلَّةِ عَلَى البَحْرِ، وَقَدْ تَلَأْلَأَ وَأَضَاءَ كُلَّ مَكَانٍ كَالبَرْقِ عِنْدَ كَثَافَةِ الغَيْمِ وَقَبْلَ نُزُولِ المَطَرِ، وَلَا غَيْمَ وَلَا مَطَرَ، فَنَحْنُ فِي بِدَايَةِ الصَّيْفِ. إِذًا فَمَاذَا يَا تَرَى هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟!!
    هَذَا النُّورُ العَجِيبُ، يَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ مُذْهِلٍ، أَشْعَرَنِي بِضَآلَةِ الإِنْسَانِ وَعَظَمَةِ الخَالِقِ. هَذَا اللَّيْلُ الَّذِي يَلُفُّ بِثَوْبِ سَوَادِهِ الرَّهِيبِ كُلَّ شَيْءٍ، هَا هُوَ قَابِضٌ بِسَوَادِهِ الدَّاكِنِ عَلَى البَرِّ وَالبَحْرِ وَالفَضَاءِ. لَقَدْ بَدَا لِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى غَوْرِهِ الرَّهِيبِ مَنْظَرًا مُدْهِشًا بَدِيعًا بَالِغَ الرَّوْعَةِ، إِنَّهُ مَنْظَرُ الجَلَالِ وَالهَيْبَةِ وَالعَظَمَةِ للهِ الَّذِي أَجِدُنِي أَنْجَذِبُ إِلَى سُبُحَاتِهِ.
    قَطَعَتْ حِبَالَ أَفْكَارِي مَوْجَاتُ النُّعَاسِ، وَسُرْعَانَ مَا أَحَاطَتْ بِي مِنْ كُلِّ اتِّجَاهٍ، وَانْسَدَلَ السِّتَارُ وَأُقْفِلَتِ العَيْنَانِ المُنْهِكَتَانِ أَبْوَابُهُمَا، وَذَهَبْتُ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ. مَا أَيْقَظَنِي إِلَّا أَذَانُ الفَجْرِ فِي نِدَائِهِ الأَخِيرِ لِلصَّلَاةِ. وَبَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ صَلَاتِي، حَمَلْتُ نَفْسِي بِقُوَّةٍ وَهِيَ تَتَثَاقَلُ إِلَى الأَرْضِ تُرِيدُ النَّوْمَ. خَرَجْتُ مِنْ فَوْرِي وَقَدِ ارْتَدَيْتُ مَلَابِسِي وَصَفَّفْتُ شَعْرِي دُونَ أَنْ أَعْتَنِي كَمَا يَنْبَغِي بِهِنْدَامِي.
    دَفَعَنِي العَجَلُ كَيْ أُدْرِكَ مُتْعَةَ مُشَاهَدَةِ الإِيلَاجِ بَيْنَ البَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَأُصَافِحَ أَنَامِلَ خُيُوطِ الفَجْرِ البَيْضَاءِ المُخَضَّبَةِ بِلَوْنِ اللَّيْلِ قَبْلَ أَنْ يَلِجَ النَّهَارُ فِيهِ وَيُغَادِرَ. وَصَلْتُ الشَّاطِئَ، وَأَخَذْتُ مَكَانِي فِي مُقَدِّمَةِ فِنَاءِ مَطْعَمِ الرُّوبِينِ المُطِلِّ عَلَى البَحْرِ مِنْ جِهَةِ السَّاحِلِ الشَّمَالِيِّ وَتَنَاوَلْتُ الإِفْطَارَ هُنَاكَ وَكَانَ إِفْطَارًا شَهِيًّا - سَمَكٌ طَازَجٌ وَجُبْنٌ طَرِيٌّ - أَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ كُلَّمَا هَبَّتْ رِيَاحِي عَلَى شَطِّ هَذِهِ المَدِينَةِ السَّاحِرَةِ.
    كَانَ النَّشَاطُ يَفِيضُ بِي كَمَا يَفِيضُ المَوْجُ حَالَ ثَوْرَةِ البَحْرِ وَعُنْفُوَانِهِ، أَخَذْتُ جَوْلَةً لَا بَأْسَ بِهَا حَتَّى بَسَطَتِ الشَّمْسُ رِدَاءَهَا وَوَزَّعَتْ خُيُوطَ أَضْوَائِهَا الذَّهَبِيَّةَ عَلَى البَحْرِ وَالبَرِّ، وَالرَّابِيَةِ وَالتِّلِّ، كَمَا يُوَزِّعُ البَنَفْسَجُ أَرِيجَهُ عِنْدَ تَفَتُّقِ بَرَاعِمِهِ وَتَبَسُّمِ أَزْهَارِهِ.
    تَسَلَّلَتِ الشَّمْسُ عَلَى الشَّاطِئِ كَغَانِيَةٍ ذَهَبِيَّةٍ تَنْسِجُ ضَفَائِرَهَا مِنْ خُيُوطِ الضَّوْءِ عَلَى رَمْلِ البَحْرِ، وَتُلْقِي بِشَالِهَا المُذَهَّبِ عَلَى وَجْهِ المَدِينَةِ.
    وَبَيْنَمَا أَنَا أَشَمُّ رَائِحَةَ البَحْرِ وَأَغْسِلُ قَدَمَيَّ بِزَفَرَاتِ أَمْوَاجِهِ وَهِيَ تَنْقُلُ الزَّبَدَ إِلَى حَافَةِ شَطِّهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، رَنَّ جَرَسُ الهَاتِفِ. كَانَ المُتَّصِلُ صَدِيقِي فَاهِمٌ، تَوَاعَدْنَا ثُمَّ الْتَقَيْنَا عَلَى شَوْقٍ وَلَهْفَةٍ، الفَرَحُ يَغْمُرُنَا وَالسُّرُورُ يُظِلُّنَا. أَرَادَنِي - كَرِيمًا عَلَيْهِ - فِي دَارِهِ، فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقُلْتُ وَأَنَا أُشْبِعُ نَاظِرَيَّ بِطَلْعَتِهِ البَهِيَّةِ وَمُحَيَّاهُ المُشْرِقِ: "كَيْفَ نَتْرُكُ هَذَا النَّسِيمَ العَلِيلَ وَالإِشْرَاقَ الجَمِيلَ، وَنُحَاصَرُ بِجُدْرَانِ مَنْزِلِكَ المُتَلَثِّمِ بِحِيطَانِهِ، تَخَيَّرْ لَنَا مَكَانًا شَاعِرِيًّا يُشَارِكُنَا فَرْحَةَ لِقَائِنَا."
    وَفِي زَاوِيَةٍ مِنْ حَدِيقَةٍ عَامَّةٍ، كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ مَنْزِلِهِ، قَعَدْنَا نَحْتَسِي القَهْوَةَ وَتَبَادَلْنَا شَجِيَّ الحَدِيثِ - المُمْتَزِجِ بِعَوَاطِفِ الإِخَاءِ المُتَجَرَّدِ مِنْ كُلِّ مَطْمَعٍ - عَلَّنَا نُطْفِئُ ظَمَأَ الأَشْوَاقِ المُتَأَجِّجَةِ مِنْ طُولِ الفُرْقَةِ وَشِدَّةِ اللَّوْعَةِ. وَبَعْدَ حَدِيثِ الوِدَادِ وَالمُؤَانَسَةِ، هَبَّتْ رِيَاحُ الجِدِّ.
    ـ فَاهِمُ، مَا الَّذِي جَعَلَكَ تُغَيِّرُ رَأْيَكَ فِي المَشْرُوعِ؟
    ـ لَبَّيْكَ يَا حَامِدُ. لَقَدْ بُحَّ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِضُهُ عَلَى المُسْتَثْمِرِينَ دُونَ جَدْوَى، أَسْعَارُ المَوَادِّ الخَامِ مُرْتَفِعَةٌ، وَأَصْحَابُ رُؤُوسِ الأَمْوَالِ يَتَرَاجَعُونَ.
    ـ وَلِمَ لَا نَبْدَأُ بِمَبْلَغٍ بَسِيطٍ عَلَى عَجَلَةٍ وَلَا نَتَرَيَّثُ؟
    ـ هَذَا مَا أَقْتَرِحُهُ عَلَيْكَ، سَلِّمْنِي المَبْلَغَ وَأَنَا سَأَتَصَرَّفُ.
    ـ نَتَرَيَّثُ يَا فَاهِمُ! إِنَّ الوَاقِعَ مُنْكَسِرٌ، وَأَرْضَ الِاسْتِثْمَارِ غَيْرُ خِصْبَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُرِيدُ أَنْ نَسِيرَ فِي دَرْبٍ مَلِيءٍ بِالصُّخُورِ.
    تَجَاذَبَتْنِي الحَيْرَةُ، وَتِهْتُ فِي شَوَارِعِ أَفْكَارِي!! بَيْنَ طَرِيقَيْنِ، طَرِيقِ الوَاقِعِ وَطَرِيقِ الدَّافِعِ!! بَحْثًا عَنْ مَرْفَأٍ يَرْسُو عَلَيْهِ قَرَارِي وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أَفْكَارِي: هَلْ أَمْضِي فِي المَشْرُوعِ أَمْ أَنْصَرِفُ عَنْهُ؟.. فَالوَاقِعُ مُنْكَسِرٌ، وَتُرْبَةُ الِاسْتِثْمَارِ غَيْرُ خِصْبَةٍ، وَظُرُوفٌ مُتَقَلِّبَةٌ وَأَسْعَارٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَأُنَاسٌ يَنْهَشُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا تَنْهَشُ الوُحُوشُ الجَائِعَةُ فَرَائِسَهَا فِي مَعَارِكِ المَدِّ وَالجَزْرِ مِنْ أَجْلِ البَقَاءِ.
    وَبَيْنَ الرَّغْبَةِ فِي الوُصُولِ إِلَى بَسَاتِينِ الحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَحَدَائِقِ العَيْشِ الكَرِيمِ؛ لِنَجْنِيَ زَنَابِقَ العِزَّةِ، وَفَوَاكِهَ الكَرَامَةِ، تَحْتَ مَظَلَّةِ العِفَّةِ.. بَعِيدًا عَنْ وَحْلِ الذُّلِّ، وَمُسْتَنْقَعِ الفَاقَةِ.. وَبَعِيدًا عَنْ أَرْصِفَةِ البَطَالَةِ وَغُرَفِ الخُمُولِ وَأَسِرَّةِ الدَّعَةِ... فَعَلَى أَيِّ شَطٍّ أَرْسُو وَالأَمْوَاجُ مِنْ حَوْلِي عَاتِيَةٌ؟ وَذَاكِرَتِي تَسْتَدْعِي صُوَرَ الإِشْرَاقِ وَالإِخْفَاقِ، فَأُحَلِّقُ حِينًا وَأُخْفِتُ حِينًا آخَرَ.
    وَبَعْدَ صِرَاعٍ دَاخِلِيٍّ طَوِيلٍ، وَأَمَامَ ثِقَةِ صَدِيقِهِ وَرَغْبَةِ زَوْجَتِهِ، وَبَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَنْ يَنْعَمَ إِلَّا بِالمُخَاطَرَةِ، رَفَعَ حَامِدٌ هَاتِفَهُ وَأَرْسَلَ رِسَالَةً قَصِيرَةً لِأَسْمَاءَ يَقُولُ فِيهَا: "لَا تَقْلَقِي، سَنَبْدَأُ المَشْرُوعَ بِإِذْنِ اللهِ".
    خيوط الظل
    مَا زَالَتْ صَفْقَةُ جَارِنَا الحَاجِّ مُحَمَّدٍ مَحْفُورَةً فِي ذَاكِرَتِي كَمَا يَحْفِرُ المَاءُ الصَّخْرَ!!. فَبِمُجَرَّدِ وُصُولِ بِضَاعَتِهِ، خَفَّضَ المُوَرِّدُ المُحْتَكِرُ نَبْهَانُ أَسْعَارَهُ بِأَقَلَّ مِنْ تَكْلُفَةِ شِرَائِهِ؛ كَيْ يُصِيبَهُ بِمَقْتَلٍ؛ وَيَئِدَ طُمُوحَهُ إِلَى الأَبَدِ، وَتَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ؛ كَسَدَتْ بِضَاعَتُهُ وَخَابَ فَأْلُهُ، وَظَلَّ يَعْرِضُهَا حَتَّى انْتَهَى تَارِيخُ صَلَاحِيَّتِهَا، وَتَمَّ إِتْلَافُهَا فِي مَحْرَقَةِ الِاحْتِكَارِ وَالجَشَعِ، جِوَارَ سُوقِ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ ضَمِيرٌ وَلَا وَازِعٌ مِنْ دِينٍ، أَتْلَفَتْهَا الأَنَانِيَّةُ وَنِيرَانُ الأَطْمَاعِ... وَمَعَهَا آمَالُ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ وَأَحْلَامُهُ.
    قِصَّةُ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ: مُؤَامَرَةُ الغُرُوبِ
    هَمَسَتْ لِي ذَاكِرَتِي، وَهِيَ تُقَلِّبُ صَفَحَاتِ المَاضِي: "تَذَكَّرْ يَا حَامِدُ، كَيْفَ وَصَلَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ إِلَى المِينَاءِ بِقَلْبٍ يَفِيضُ طُمَأْنِينَةً، وَكَيْفَ اسْتَقْبَلَهُ المَوْظَفُونَ بِالتَّرْحَابِ؟ لَكِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَرصَّدُ خُطُوَاتِهِ، نَبْهَانُ، الَّذِي لَا يُطِيقُ أَنْ يُشَارِكَهُ أَحَدٌ عَرْشَ تِجَارَتِهِ، وَذِرَاعُهُ اليُمْنَى سَالِمٌ، الَّذِي كَانَ يَرَى فِي إِفْلَاسِ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ طَرِيقًا مُخْتَصَرًا لِوِرَاثَةِ عَرْشِ عَمِّهِ.
    لَمْ يَكْتَفِ نَبْهَانُ بِتَأْخِيرِ الشُّحْنَةِ، بَلْ اسْتَخْدَمَ سِلَاحَ الإِشَاعَاتِ المَسْمُومَةِ، وَأَرْسَلَ صَدِيقَ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ القَدِيمَ، عُثْمَانَ، الَّذِي بَاعَهُ اليَأْسُ وَالفَقْرُ، لِيَكُونَ طُعْمًا فِي شِبَاكِ مُؤَامَرَتِهِمْ. كَانَ عُثْمَانُ يَتَحَدَّثُ بِحُرْقَةِ الصَّدِيقِ الَّذِي يَخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ، بَيْنَمَا يُغْرِيهِ بِبَيْعِ البِضَاعَةِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.
    كَانَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ صَامِدًا، لَكِنَّ إِعْلَانَ نَبْهَانَ المُفَاجِئَ عَنْ تَخْفِيضِ أَسْعَارِهِ أَقَلَّ مِنْ سِعْرِ الشِّرَاءِ، كَانَ بِمَثَابَةِ القَشَّةِ الَّتِي قَصَمَتْ ظَهْرَ البَعِيرِ. رَأَيْتُ الحَاجَّ مُحَمَّدًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ التُّجَّارِ كَطَائِرٍ مَكْسُورِ الجَنَاحِ، يُحَاوِلُ بَيْعَ بِضَاعَتِهِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا القَدَرُ أَنْ تُصْبِحَ طَعَامًا لِلنِّيرَانِ. لَمْ يَكُنْ صِرَاعًا مِنْ أَجْلِ البَقَاءِ، بَلْ كَانَ إِفْنَاءً عَمْدًا لِأَحْلَامِهِ وَآمَالِهِ، حُفِرَتْ فِي قَلْبِي كَخِنْجَرٍ مَسْمُومٍ.
    فِي النِّهَايَةِ، تَمَّ إِتْلَافُ البِضَاعَةِ، وَلَكِنَّ الأَدْهَى هُوَ أَنَّ سَالِمًا قَدْ اشْتَرَى مَا تَبَقَّى مِنْهَا لِيُعِيدَ بَيْعَهُ، بَيْنَمَا كَانَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ يُكَافِحُ المَرَضَ الَّذِي نَهَشَ جَسَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْهَشَ مَالَهُ. كَانَتْ عَيْنَاهُ تَحْمِلَانِ قِصَّةً أَكْبَرَ مِنْ مُجَرَّدِ خَسَارَةٍ تِجَارِيَّةٍ؛ قِصَّةَ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ، وَدَرْسًا قَاسِيًا عَنْ عَالَمٍ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلْبَرَاءَةِ.
    وَبَعْدَ أَنْ نَالَ مِنْهُ المَرَضُ وَتَثَاقَلَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، جَمَعَ الحَاجُّ مُحَمَّدٌ ابْنَهُ تَامِرًا لِيُوَدِّعَهُ، كَانَتْ كَلِمَاتُهُ أَشْبَهَ بِالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ قَلْبٍ أَنْهَكَتْهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَوْتُهُ يُكَابِدُ آلَامَ الجَسَدِ لِيُهْدِيَ دَرْبًا لِابْنِهِ.
    قِصَّةُ سَمِيرٍ: شِرَاكُ الهَوَاءِ المَسْمُومِ
    ثُمَّ الْتَقَطَتْ كَامِيرَا ذَاكِرَتِي صُوَرَ الأَحْدَاثِ المُدْهِشَةِ، لِتِجَارَةِ سَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ فِي مَشْرُوعِهِمُ الغَامِضِ الَّذِي أُقِيمَ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ أُعْرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ مَحْمُولًا عَلَى أَكْتَافِ المُعَصِّرَاتِ، تَهَوْدَجُهُ الرِّيَاحُ مِنَ اليَمِينِ إِلَى اليَسَارِ، وَتَرْمُقُهُ العُيُونُ المُتَّكِئَةُ عَلَى الثِّقَةِ فَتَصْمُتُ وَلَا تُلْقِي لَهُ بَالًا؛ كَأَنَّهَا لَا تَخْشَى عَلَيْهِ السُّقُوطَ السَّحِيقَ الَّذِي سَيُفَتِّتُهُ وَيُمَزِّقُهُ بِمُجَرَّدِ ارْتِطَامِهِ بِالأَرْضِ!!.
    أَرْوِي يَا ذَاكِرَتِي فَقَدْ شَوَّقْتِنِي لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ.
    لَمْ تُسْعِفْنِي ذَاكِرَتِي فَقَدْ بَلَغَ بِي الجُوعُ مَبْلَغَهُ، لَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَعَصَافِيرُ أَمْعَائِي تَتَضَوَّرُ جُوعًا وَتَطْلُبُ مُسْتَغِيثَةً، مَا يَسُدُّ خَلَّتَهَا، وَيُشْبِعُ فَاقَتَهَا، فَقَدْ تَنَاسَيْتُهَا - فِي زَحْمَةِ أَسْوَاقِ شُرُودِي. تَنَاوَلْتُ بَعْضَ الفَوَاكِهِ وَالمَشْرُوبَاتِ الَّتِي كُنْتُ قَدْ أَحْضَرْتُهَا مِنْ بَقَّالَةٍ مَرَرْتُ بِهَا، سَكَنَ جُوعِي وَهَدَأَتْ عَصَافِيرُ بَطْنِي وَعُدْتُ إِلَى تِلْكَ الأَسْوَاقِ مُطَالِبًا ذَاكِرَتِي بِمَزِيدٍ مِنَ العَرْضِ قَائِلًا لَهَا:
    خُطِّي يَا أَقْلَامَ الرُّوحِ مَعَانِيَ الحُبِّ العَذْبِ وَثُورِي
    شُقِّي دَرْبًا فِي الآفَاقِ الآنَ وَطِيرِي
    دُكِّي جُدُرَ الصَّمْتِ وَمُدِّي فِي رَحِمِ الآفَاقِ جُسُورِي
    يَا عُمْرَ الحُلْمِ المَأْمُولِ بِأَيَّامِ نَشَاطِي وَفُتُورِي
    كَانَ سَمِيرٌ شَابًّا حَالِمًا، يَعْمَلُ فِي مَجَالِ التِّجَارَةِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ مَعَ مَجْمُوعَةٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ الطَّمُوحِينَ. مَشْرُوعُهُمْ كَانَ غَامِضًا، يَعْتَمِدُ عَلَى تَسْوِيقِ "مُنْتَجٍ سِرِّيٍّ" يُشَاعُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الخَارِجِ بِسِعْرٍ خَيَالِيٍّ. كَانَ حَامِدٌ يَعْرِفُ سَمِيرًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِرَايَةٍ بِتَفَاصِيلِ مَشْرُوعِهِ، وَكَانَ يَرَاهُ مِثَالًا عَلَى المُغَامَرَةِ المَحْفُوفَةِ بِالمَخَاطِرِ.
    بَدَأَتِ القِصَّةُ بِجَمْعِ فَارِسَ، قَائِدِ المَجْمُوعَةِ، لِأَمْوَالِ سَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ، مُقْنِعًا إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ سَيَقُومُونَ "بِشِرَاءِ كَمِّيَّاتٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الهَوَاءِ النَّقِيِّ المُعَبَّأِ" فِي قَوَارِيرَ خَاصَّةٍ مِنْ مِنْطَقَةٍ جَبَلِيَّةٍ نَائِيَةٍ، وَأَنَّ هَذَا "الهَوَاءَ" يُبَاعُ فِي الدُّوَلِ الكُبْرَى بِأَسْعَارٍ بَاهِظَةٍ كَعِلَاجٍ لِلِاكْتِئَابِ. أُطْلِقَ عَلَى الشَّرِكَةِ اسْمُ "المُعَصِّرَاتِ".
    تُوَالَتْ "شُحْنَاتُ الهَوَاءِ" عَبْرَ شَرِكَةِ شَحْنٍ دَوْلِيَّةٍ، وَأَظْهَرَ فَارِسُ لِسَمِيرٍ وَرِفَاقِهِ صُوَرًا وَفِيدِيُوهَاتٍ تُظْهِرُ نَجَاحَ "مَشْرُوعِهِمْ" فِي الخَارِجِ، مُدَّعِيًا أَنَّ الطَّلَبَ هَائِلٌ. لَكِنَّ الحَقِيقَةَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً تَمَامًا؛ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ أَيُّ شُحْنَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ، بَلْ كَانَتْ مُجَرَّدَ عَمَلِيَّةِ احْتِيَالٍ مُعَقَّدَةٍ، حَيْثُ يَقُومُ فَارِسُ بِبَيْعِ قَوَارِيرَ فَارِغَةٍ فِي سُوقٍ سَوْدَاءَ مَحَلِّيَّةٍ صَغِيرَةٍ، مُتَجَنِّبًا أَيَّ تَسْجِيلٍ رَسْمِيٍّ لِلْمَشْرُوعِ.
    بَدَأَتْ نُورَةُ بِالشَّكِّ عِنْدَمَا اكْتَشَفَتْ أَنَّ أَرْبَاحَهُمْ لَا تَتَطَابَقُ مَعَ حَجْمِ المَبِيعَاتِ المَزْعُومِ، وَأَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي يَتَعَامَلُونَ مَعَهَا غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ. حَاوَلَتْ نُورَةُ تَحْذِيرَ سَمِيرٍ وَرَائِدٍ، لَكِنَّهُمَا يَرْفُضَانِ تَصْدِيقَهَا، مُتَّهِمَيْنِ إِيَّاهَا بِالغَيْرَةِ.
    تَتَفَاقَمُ الأَزْمَةُ عِنْدَمَا يَطْلُبُ فَارِسُ مِنَ المَجْمُوعَةِ جَمْعَ المَزِيدِ مِنَ المَالِ لِشِرَاءِ "شُحْنَةٍ أَكْبَرَ"، وَوَعَدَهُمْ بِمِلْكِيَّةِ جُزْءٍ مِنَ الشَّرِكَةِ. يُعْطِي سَمِيرٌ كُلَّ مَا يَمْلِكُ، وَيَقْتَرِضُ مِنْ عَائِلَتِهِ، بِمَا فِي ذَلِكَ وَالِدَتُهُ المَرِيضَةُ.
    فِي النِّهَايَةِ، يَخْتَفِي فَارِسُ بَعْدَ أَنْ جَمَعَ كُلَّ الأَمْوَالِ، تَارِكًا سَمِيرًا وَرِفَاقَهُ فِي مُوَاجَهَةِ دُيُونٍ ضَخْمَةٍ. يُدْرِكُ سَمِيرٌ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَرَاهُ كَانَ مُجَرَّدَ "شِرَاكٍ هَوَائِيٍّ مَسْمُومٍ"، وَأَنَّ كُلَّ الأَرْقَامِ كَانَتْ وَهْمِيَّةً. هَذَا الإِفْلَاسُ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ مُنَافَسَةٍ أَوْ ظُرُوفِ سُوقٍ، بَلْ كَانَ نَتِيجَةَ جَشَعٍ وَطَمَعِ شَخْصٍ اسْتَغَلَّ أَحْلَامَهُمْ.
    كَانَتْ قِصَّةُ سَمِيرٍ حَادِثَةً مُرْهِقَةً فِي ذَاكِرَةِ حَامِدٍ. فَلَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ قِصَّةِ فَشَلٍ عَابِرَةٍ، بَلْ بَقِيَتْ عُقْدَةٌ لَمْ تُحَلَّ. كَانَ سَمِيرٌ يَعُودُ دَائِمًا بِتَفَاصِيلَ غَامِضَةٍ عَنْ فَارِسَ، قَائِدِ المَجْمُوعَةِ. كَانَ فَارِسُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مُحْتَالٍ، بَلْ شَخْصِيَّةً مُحَيِّرَةً لَهَا صِلَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
    فِي إِحْدَى المَرَّاتِ، أَخْبَرَ سَمِيرٌ حَامِدًا بِأَنَّهُ سَيَكْتَشِفُ حَقِيقَةَ فَارِسَ، وَأَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِشَخْصِيَّاتٍ مُهِمَّةٍ فِي المَدِينَةِ. وَأَنَّ لِلْفَشَلِ الذِي حَدَثَ مَعَهُمْ يَدًَا فِي قِصَصٍ أُخْرَى لَمْ تَظْهَرْ بَعْدُ. وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ سَمِيرٌ مِنْ كَشْفِ المَزِيدِ، اخْتَفَى فَجْأَةً، مُخَلِّفًا وَرَاءَهُ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ مِنْ أَجْوِبَةٍ. هَلِ اخْتَفَى خَوْفًا؟ أَمْ كَانَ جُزْءًا مِنْ مُؤَامَرَةٍ أَكْبَرُ مِمَّا تَصَوَّرَهُ الجَمِيعُ؟
    هَذَا الغُمُوضُ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَامِدٌ. فَلَمْ يَكُنِ الفَشَلُ هُوَ النُّقْطَةَ، بَلْ عَدَمُ مَعْرِفَةِ سَبَبِهِ الحَقِيقِيِّ.
    لَقَدْ كَانَتْ قِصَّتَا الحَاجِّ مُحَمَّدٍ وَسَمِيرٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَمَامًا، وَهَذَا هُوَ سِرُّ قَرَارِ حَامِدٍ. لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَا فَشَلٍ مُتَطَابِقَتَانِ، بَلْ دَرْسَانِ مُنْفَصِلَانِ. قِصَّةُ الحَاجِّ مُحَمَّدٍ كَانَتْ عَنِ الغَدْرِ وَالِاحْتِكَارِ فِي عَالَمِ التِّجَارَةِ التَّقْلِيدِيِّ، بَيْنَمَا قِصَّةُ سَمِيرٍ مختلف
    أَدْرَكَ حَامِدٌ بِبَصِيرَتِهِ أَنَّ فَشَلَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَاجِمًا عَنِ المَشَارِيعِ ذَاتِهَا، بَلْ عَنِ العَامِلِ البَشَرِيِّ. فَالْحَاجُّ مُحَمَّدٌ وَقَعَ ضَحِيَّةَ مَنَاهِجَ غَيْرِ شَرِيفَةٍ وَأَخْلَاقٍ فَاسِدَةٍ، فِي حِينِ أَنَّ سَمِيرًا غَامَرَ بِشَكْلٍ أَعْمَى وَوَثِقَ فِي شَخْصٍ مَجْهُولِ الهُوِيَّةِ.
    ستَجَنَّبَ حَامِدٌ نَفْسَ الأَخْطَاءِ. فَمَشْرُوعُهُ كَانَ بِنَاءً عَلَى دِرَاسَةٍ وَتَحْلِيلٍ، وَشَرِيكُهُ كَانَ صَدِيقَ عُمْرِهِ الَّذِي يَعْرِفُهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ. لَمْ يَكُنِ المَشْرُوعُ وَهْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا فَصْلٍ، بَلْ حَقِيقَةً مَلْمُوسَةً.
    لَمْ يُلْغِ حَامِدٌ مَخَاطِرَ العَمَلِ، بَلْ ظن انه تَعَلَّمَ كَيْفَ يُوَاجِهُهَا بِتَجَنُّبِ الأَخْطَاءِ الَّتِي أَوْدَتْ بِالآخَرِينَ. فَقَرَّرَ أَنْ لَا يَكُونَ مَسْجُونًا لِذِكْرَيَاتِ الفَشَلِ، بَلْ يَنْطَلِقُ مِنْهَا كَمِنَصَّةِ انْطِلَاقٍ لِتَحْقِيقِ نَجَاحٍ مُخْتَلِفٍ.

    فتح بعدها محركات البحث، كتب اسم "فارس"، قائد مجموعة سمير، الذي اختفى في ظروف غامضة.
    أَضَاءَتْ فِي عَقْلِ حَامِدٍ شَرَارَةٌ بَارِدَةٌ. لَمْ يَعُدِ الأَمْرُ مُجَرَّدَ فَشَلٍ عَابِرٍ، بَلْ عُقْدَةً مُحْكَمَةً مَصْنُوعَةً مِنْ خُيُوطٍ بَشَرِيَّةٍ. شَعَرَ بِوُجُودِ خَيْطٍ أَعْمَى بَيْنَ يَدَيْهِ، يَقُودُهُ نَحْوَ سِرٍّ دُفِنَ تَحْتَ رَمْلِ النِّسْيَانِ.
    اِقْتَحَمَ شَاشَةَ حَاسُوبِهِ السَّوْدَاءَ كَأَنَّهَا بَوَّابَةُ زَمَنٍ مَنْسِيٍّ. عَلَى مَكَانٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الضَّوْءُ، كَتَبَ اِسْمَ "فَارِسٍ مرة أخرى"، وَأَطْلَقَ بَحْثَهُ فِي فُضَاءِ الظِّلِّ.
    لَمْ يَعْثُرْ إِلَّا عَلَى رُقَاعٍ مِنْ ظِلٍّ بَاهِتٍ، وَأَصْدَاءٍ قَدِيمَةٍ فِي مَسَاحَاتٍ مَهْجُورَةٍ. عَيْنُهُ تَجُوبُ فِي ذَلِكَ الخَرَابِ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ عَلَى صُنْدُوقٍ رمادي قَدِيمٍ: صُورَةٌ جَمَاعِيَّةٌ. كَانَتْ تلف مَعَانِيَ المَاضِي بِغُمُوضٍ.
    وَفَجْأَةً، تَوَقَّفَ نَبْضُ قَلْبِهِ. كَانَتْ عَيْنَاهُ تَشْرَبَانِ الصُّورَةَ، تَتَوَقَّفَانِ عِنْدَ وَجْهٍ. لَيْسَ غَرِيبًا عَلَيْهِ، مَأْلُوفًا تَمَامًا. يَتَشَكَّلُ بِبُطْءٍ لِيُظْهِرَ وَجْهَ صَدِيقِهِ.
    كَانَتْ الصُّورَةُ تَجْمَعُ وَجْهَ صَدِيقِهِ فَاهِمٍ، وَإِلَى جَانِبِهِ… قِنَاعُ شَخْصٍ لَمْ يَرَهُ حَامِدٌ مُطْلَقًا، لَكِنَّهُ عَرَفَهُ بِوَصْفِهِ: كأنه فَارِسَ