حمارٌ وفيلسوف وحكماء
قبيل الغروب
بعد عشرة أعوام من سماعه كلمات الحقيقة
كان العابر يجوز أطراف المدينة حيث راحت الشمس تلملم آخر خيوطها عنها تاركة وراءها شاهقات المباني تغرق في عالم من الدخان والضجيج والوجل؛ فراح الظلام ينشّر أجنحته … يطوي بهن الأفاق.
كان العابر يغذ السير حاملا فانوسه؛ يحدّق في كل صوب؛ يبحث عن شيء قد أشتد لأجله شوقه وانتظاره.
وبينما هو على حاله إذ بفتى يرقبه، ثم ما لبث أن ناداه:
يا شيخ تبحث عن ماذا ؟ فسكن العابر برهة، ونظر إلى الفتى وهو يبتسم ... يلوّح بيده، ثم راح يواصل سيره، فما ازداد الفتى إلا فضولا، فخاطبه ثانية:
- ناشدتك الله إلا أخبرتني علامَ تبحث، وإلى أين أنت قاصد ؟
فرفع العابر رأسه كمن ضاق بأمر ذرعا:
- أيْ أخي قد مللت معاشرة السباع والهوام، وأجهدتْ روحي مخالطة الكسالى والأقزام الذين تعج بصخب ألسنتهم تلك المدائن؛ وتشمئزٌ من برودة أرواحهم كلُ الآفاق؛ فخرجتُ أطلب ماردا يملأ ذاتي بعنفوانه؛ ويعيد لهذه الحياة معناها ومبناها؛ ويروّح عن نفسي التي أثقلتها ثمارها حتى كادت أن تميد بها.
والحق فان أحدا سواه ليس أهلا لأن أقدم له ثمار نفسي، بعد أن فسدت أذواق الناس فما عادت تستسيغ إلا خمط الثمار. فعن ذالك المارد أبحث، وإن ِشئتَ: أبحث عن إنسان.
- قد غرتك نفسُك فخرجت تطلب العنقاء في ذراها وأنت الواهي الضعيف… عد أدراجك أيها الشيخ. ولست أدري علام تجهدُ ذاتك وقد أمكنك أن تقصرَ فضائلك على نفسك، ويسعك ما وسِع الناسَ، وليس لديَّ بعدُ ما أقول.
فلوح العابر بفانوسه وهو يحدق قائلا:
ما سألتك عن شيء لأطلب منك المزيد، " ولإنْ كان هذا رأيك فقد استرحتَ ".
أي أخي؛ لتعلم أن أحبَّ شيء عندي أعزُه وجودا. وأن كنتُ أبحث عن العنقاء في ذراها - كما تقول - فلست مثلك أبحث عن إثباتِ أمرٍ طاله الشكُ في نفسك فشبهته بالمحال؛ بل عن آت طال اغترابه أبحثُ، ومن أجل هذا قلت أنفا: " أبحث عن إنسان " ذاك الذي خُط اسمه من نسيج الحقيقة، واشتق سمته من روح الخير. ولو تدبرتَ لأدركتَ بأني أنتظر حضور يقين، أمّا أنت فتبحث عن دحض ٍ لشك، وأظن أن من أبحث عنه ينتظر أمثالي أيضا؛ لا أقصد شخصي الفاني، بل ما قرّ في ذاتي من يقين.
- هب أنك وجدته فما أنت فاعل؟ وأي شيء يقدمه مجهدٌ واهٍ مثلك؛ بفانوسه الكابي هذا!!
- هيهات لفانوسي أن يلف نورُه صرحَه الشامخ، غير أني بسعيي وجهدي أشعر بيقين يرفع ذاتي؛ يملؤها عطاء؛ أتطلع فيه أن يمكنني من أن أنبه نيام الناس كي يدركوا واجبهم تجاه الآتي عبر الأفاق وهو ينوء بوقر ثقيل. وهل مِن شيء أقدمه أكثر من عصارة نفسي وفكري... وهذه الدنيا قد لبستُ بها فأبليتُ الثياب. ومع هذا أراني ما زلت متسائلا عما إذا جاز للتلميذ أن يستعرض أمام الأستاذ حصيلة ما جناه من سانحاتِ المعارف وآلام الحقيقة؟ ثم رفع العابر رأسه منادياً:
يا حادي العيس هذه الجادةُ فأين السالِك ...!
قال الفتى: يا معلم وضح لي، فذهني عاجزَ عن أدراك ما تقول، إلا أنْ تريدَ أن تنأى عني بما تعرف.
- ها قد خالط الشكُ الموعظة، ألا ترى أن الرمزَ أبلغ في البيان حين تتحدث عن يقين شاخصٍ لا يحتاج إلى برهان صريح. على أني لا أجد فيما قلتُ رمزا مستعصيا، ولكن يبدو أن عارياتِ الحقائقِ قد غدتْ في أذهان الناس رموزا مستعصية وألغازا؛ لهذا كان عليّ أن أخوض الغمار وأقتحم سُخامَ الزيف وهو يعلو هامة العقول والأفهام.
- لكن قل لي أيها العابر ما لي أراك راجلا؟ وهل لعاقل أن يقطع الآفاق دون راحلة وزاد ؟
أجاب العابر: أما الزاد فقد صار لي دربة على تحمل الجوع مذ ألفت الطبيعةَ فصرت كما الطيور تخرج مع طلائع الفجر يملؤها الأمل والحبور لتعود إلى أعشاشها مساءا وقد امتلأت حواصلها حَبا، ولست حريصا بعدُ على أن انتقي لذيذ الطعام؛ فلذتي قد عبرت آفاقها وتحولت صوب بقية تحولاتي. أما عن الراحلة فأقول:
يُحكى أن رجلا حلّ به الترحال فنزل ضيفا على منتدى حكماء المدينة، وكان معه حمار، فجلس مع أناس منهم يعرفهم لينال قسطا من الراحة، فلما دنا وقتُ العشاء جِيء بسفرة الطعام فتذكر راحلته فقال للخادم:
يا هذا اذهب إلى الحظيرة حيث أودعتُ حماري وهيئ له التبن والشعير.
قال الخادم: قد سالتَ خبيرا فلا تشغل بالك.
- ولتقدم له الماء يشرب.
- ليس أحدا أحرصُ مني على واجب.
- وأوصيك بان تنزل عنه سرجه، وتداوي جرحه الذي في ظهره.
- يا سيدي: لا توصِ أمينا، أم تظن بي مثل أولئك الخدم الذين لا يأتي منهم سوى الإهمال والمراوغة.
هكذا تكلم الخادم
ثم انطلق مسرعا، لكنه لم يذهب إلى الحظيرة؛ وانتهب ثمن العَليق الذي كان للحمار، وخادع الضيف وانطلق إلى صحبٍ له أوباش.
كان الضيف مجهدا من طول السفر وكذلك كان حماره فنام، لكنه رأى الحمارَ في منامه وقد وقع بين براثنَ ذئابٍ ما تنفكّ تنهش لحمَه وهو يجأر متألما، فانتفض الرجل يتمتم:
وا حسرتاه أين الخادم .... أين الخادم
عجبا، ألم يأكل معنا الخبز بالأمس والملح؟ أم لعل هذه أضغاث أحلام.
لقد أكرمتُ الخادمَ وهو بلا شك سيعتني براحلتي، ثم عاودَ فنام؛ فرأى الحمار يسقط حينا في بئر وحينا في بركة آسنة؛ وكرة أخرى تنهشه عقاربُ وحيات. فاستيقظ وجِلا قائلا: وا حسرتاه ما الحيلةُ ؟ ..... لقد ذهب القوم وغلقوا دوننا الأبواب.
إنني لم افعل مع الخادم إلا خيرا فلمَ يتصرف هكذا ؟
لكن ما صنع الإنسان للحية والعقرب حتى أنَّ كلا منهما لا تُكِن له في سمها إلا الموتَ والهلاك.
لا.. لا
لا يجدر بي أن أقول هذا؛ فلمَ أظنُ هكذا بأخي الإنسان؟ كيف .... ؟ وقد أحسنتُ إليه وأكرمته!!
وظل الرجل تنازعه الوساوس حتى طلع الصباح.
أما الحمار فكان في حال لا تسر، فقد ظل المسكين طوال الليل بين التراب والحصى وقد تقطع لِجامُه وأنهكه الجوعُ والعطش. فبات جلّ ليله يردد:
يا الهي قد تنازلتُ عن الشعير، فهلْ اقلُ من حفنةِ تِبن؟ وهل ساعة من راحة وأمان؟
أيها الحكماءُ رحمة بي فقد هلِكت جرّاء هذا الغرور والكذب.
أيها الحكماء لقد احترقت في أتون أنانيتكم ووضاعتكم.
وحين طلع النهار جاء الخادم وسوى السرجَ الذي على ظهره طوال الليل؛ ووخزه فأخذ المسكينُ يتوثّب وينتفض من وخْزِ الإبرةِ، لكنْ من أين له لسانٌ ليفصحَ؟ ومَن له بأذن تسمع؛ فتلبي نداء آلامِه.
وحين امتطاه الضيف اخذ يسقط على وجهه ويتهافت، والناس ينهضونه كل مرة وقد ظنوا انه مريض فهذا يمعن في تقليب أذنيه وذاك يبحث عن حصاة في عينيه، ويقولون: أيها الرجل ما سبب هذا ؟ ألم تقل بالأمس إن لي راحلة قوية فارهة؟
- إن هذا الحمار الذي تعشى بالأمس حوقلات؛ لا يستطيع أن يسير في الطريق إلا على هذا النحو. فما دامت الحوقلاتُ كلَ غذائه بالأمس؛ فقد قضى الليلَ في التسبيح، وهو ذا يقضي نهارَه في السجود !.
إن كثيرا من الحكماء والساسة أكلة للبشر، فلا تلتمس في أقوالهم كثيرا من الأمان؛ ولا في أفعالِهم نصيبا من الخير؛ وما عاد – بمعزل عن الخير والشر – ثمة إنسان.
إن من يبحث عن معاناة الحمار ينبغي أن لا يفتش في أذنيه؛ بل في ضمائر الحكماء وخدمهم الأفاقون يفتش؛ فهناك تكمن معاناتُه.
هذا ما كان - يا أخي - من خبر الحمار. أما أنا فقد صار عليّ الا امتطي راحلة وأنا أجوس خلال الديار، وقد اتخذت من قدميَّ هاتين راحلة لي، كي لا أقع في حبائل الأفاقين.
أيْ أخي كثرا ما مررت بأمثالك وأنا أسبر حادثات الماضي وأعري أستار الحاضر فيشتد في نفسي أمل المستقبل وضّاءة أفاقُه؛ فما أعاقتني برودة من مررتُ بهم عن يقيني وواجبي، لكنني سأذكر لك - ممتنا - رغبتَك وصبرك على محاورتي … وداعـــا.
هكذا تكلم العابر