ورحــل الســيد مغرور


توقفت الشمس يوما عن السباحة في الفضاء .. وألقت نظرة فاحصة للوراء .. فلم تقدر علي العودة للسباحة من جديد .. وراحت تتأمل الحدث الجلل غير مصدقة لما يحدث أمامها فلولا أنها رأت ذلك بأم عينيها ما صدقت ... وكانت السماء تمطر في مكان ما من الأرض فكفت فجأة عن المطر وتوقفت القطرات عالقة بين السماء والأرض .. لا تدري هل تعود للسماء أم تهبط إلي مسارها المرسوم .. وتجمدت السحب في مكان ما من الأرض فكفت عن المسير وتكدست تطل علي مكان من الأرض منظور .. يحمل في طياته حدثا جللا ..
انتبه الناس فجأة فلم يمر النهار .. ولم تكمل السماء الإمطار .. ولم تبحر السحب إلي حيث أمرت بالإبحار فتساءل الجميع .. ماذا يحدث في الكون العجيب .. ترى هل انتهي الكون إلي النهاية المرسومة له .. تري هل قامت القيامة من مرقدها الأمين لتعلن نهاية الكون وبداية العرض والحساب .. ؟ لا أحد يدري ماذا حدث ؟؟؟!!!
قال الناس إن السيد مغرور قد مات ..
يا إلهي !! السيد مغرور مات .. !!! ومن يقدر علي إماتة هذا المغرور ؟؟؟!!
هل كان مريضا .. ؟ لا !! هل مات في حادث ؟؟ لا !! مغرور مات !!
انتهت الدنيا إذن لقد كان السيد مغرور ملء السمع والبصر لا يفتأ يظهر في كل مكان يسَيِّر كل شئ بمشيئته ... لا يقوم قائم ولا ينام نائم إلا بمشورته !! لا يقطع إنسان أمرا إلا بعد نصيحته !! لا يتحرك قدم أحد من مكانه إلا بإشارته !! ترى هل مات السيد مغرور حقا أم إن الأمر لا يعدو مزحة لا تلبث أن تذوب مع ذوبان برد الشتاء تحت وطأة الشمس اللافحة في الصيف الزاحف علي الكون حارا خانقا .. ؟ هل غاب السيد مغرور عن الدنيا حقا أم سيعود يطل علينا من جديد عبر التلفاز والصحافة يُسيِّر كل شئ بمشورته ويقضي كل شئ بحكمته .. لا أحد يعلم حقيقة الأمر ؟؟؟ ولكن الشئ المؤكد أن الأمر جد خطير ولا يدري أحد كنهه ..
الجميع وقف يترقب من سيأمر الشمس بالبزوغ من الغد .. إذا كان السيد مغرور قد مات ..
من سيأمر السحب بالإمطار من الغد إذا كان السيد مغرور قد مات ..
من سيسير الكون بطوله وعرضه إذا كان السيد مغرور قد مات ...
من سيطعم الأفواه الجائعة .. ويكسى الأجساد العارية .. ويكسى الأرض الجدباء خضرة إذا كان السيد مغرور قد مات ..
من سيمد الدنيا بالضياء والنور إذا كان السيد مغرور قد مات ..
وفجأة .. طار نبأ عجيب دوى في الأفاق ... لقد قرر السيد مغرور وتواضع وتعطف علي الجماهير الغفيرة .. ورأف بحال الكون الواقف علي أطراف أصابعه يرقب نهايته في شغف وفضول .. قرر السيد مغرور المشرف علي الموت .. بعد أن رأي أن الكون سيختل نظامه .. وينفرط عقده .. قرر ألا يموت !!!
قرر أن يعود من بوابة الموت المفتوحة علي مصراعيها .. قرر أن يمسك بأهداب الحياة من جديد .. قرر أن يسدل علي الموت ستارا حتى حين ... فهدأ الكون .. وتنفس الصعداء .. وتلفت الكل حوله براحة وهدوء وازدرد الجميع ريقهم .. وأحسوا بدبيب الحياة يسرى في أوصالهم .. فلقد عاد من بوابة الموت السيد مغرور حاملا معه مفاتيح المستقبل السعيد لأجيال ما عرفت للسعادة طعما .. وما مست الراحة أجسادها ..
وأعقب النبأ المفرح نبأ بدد الفرحة بعودة السيد مغرور .. طار النبأ الحزين ..
لقد مات السيد مغرور حقا .. فلم يقدر علي العودة من بوابة الموت المفتوحة علي مصراعيها .. فلقد انزلقت قدمه .. في جب الموت السحيق .. وطارت روحه إلي حيث لا يعلم مصيرها إلا ... وتجمد الكون مكانه لِلَحظات لا يدري إلي أي اتجاه يسير شرقا أم غربا شمالا أم جنوبا .. لا يدري ..؟ وتوقفت السحب مكانها فلم تعرف هل تنزل ما بها من مطر هنا أم هناك أم تحتفظ به لعله ينفعها في وقت يعز فيه الماء .. وأغمضت الشمس عينيها فعَمَّ الكون السحيق المترامي الأطراف ظلام دامس وتوقفت الريح عن الهبوب لا تدري هل تسير أم تتوقف .. ؟؟؟ حالة من الجمود الكامل تعتري الكون .. والناس باتوا غير مصدقين لما يروا .. مات السيد مغرور !! إذن ستموت الدنيا كلها خلفه .. الكل وقف مشدوها حائرا مضطربا .. يرقب فناء الدنيا ..
ولم يلبث الجميع أن انتبهوا فجأة .. إن السيد مغرور مات وإن الحياة مازالت باقية تدب في أوصالهم .. فانطلقت الشمس تسبح في الفضاء بعد أن ابتسمت ابتسامة استهانة بالحدث فكل يوم تشهد موت ألف مغرور ومغرور .. وانطلقت السحب تجوب الفضاء إلي حيث قدر لها السميع العليم .. وهبت الريح مزمجرة تزأر وتصرخ في كل الكون وتدفع أمامها قلوبا أوشك الخداع أن يغرقها في بحر من الأوهام ... تدفعها لتحيا حياتها فلقد مات مغرور ولكن الحياة مازالت تسير ولن تتوقف لموت أحد مهما كان مغرورا .. وإذا كان مغرور مات فإن غدا يهل علينا حامل في طياته ألف مغرور جديد...
انتبه الناس فجأة وتلفتوا حولهم .. ثم هزوا مناكبهم في تسليم وانكسار وغمغم البعض قائلين : مات مغرور .. هيه دنيا .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. فلنواصل عملنا وحياتنا ..
وعاد الكون يموج بالحركة متناسيا مغرورا كما تناسى من قبله ألف مغرور ومغرور وعاد الناس لحياتهم وهمومهم وما عادوا يذكرون مغرورا فلقد استمرت حياتهم وما تعطلت لموت أحد أو لحياته ... وهكذا الدنيا ... لا تأبه لموت مغرور أو لحياته
..

قصة : أيمن شمس الدين