أبى النوم أن يعانقني.. ومر الليل ثقيلاً موحشاً.. ورُحت أتقلب في مضجعي لا أنعم بالراحة على جانب.. أتأمل السقف الممتد فوقي.. فتصطدم عيني بالجدار المقابل.. وترتد إلى وجهي لتصفعني صفعة عنيفة.. تكاد تلقيني خارج مضجعي.. الأرق يقتلني.. والإرهاق يعبث بعقلي.. والأفكار تتراقص أمام عيني ولا أستطيع أن أقبض على إحداها.. مددت يدي أتحسس الفضاء.. وأتلمس الأفكار.. ففرت مني متراقصة.. كأنهن فتيات لعوب.. ترمقنني بنظرة ساخرة.. تثير حواسي وتدفعني للانقضاض عليهن.. ولكن هيهات.. هيهات..قلــــــــــمي
![]()
أغمضت جفني متصنعاً النوم.. وتركت جسدي يتهدل.. وتتراخى أوصالي على فراشي الوثير الذي استحال في تلك الليلة إلى فراش من شوك.. لا يقر لي قرار عليه..
ترامت إلى مسامعي همسات الأفكار: لقد نام.. هل يعقل أن ينام؟ لا.. لا يمكن أن ينام.. فهو شغوف بكل جديد من الأفكار.. ولن يتركنا نلعب حوله وينام.. سيهب عما قريب من نومه..
قالت فكرة : أنا سأذهب إليه لأرى هل نام أو لا ؟
اقتربت الفكرة على وَجَل.. تُقدِّم جناحاً وتؤخر آخر.. حتى مسَّت وجهي أنفاسها.. وراحت تهمس في أذني.. هل نمت.. ؟ أتتركنا وتنام؟ قم يا رجل فالعب معنا ؟ مازال الليل طويلاً.. ومازالت الألعاب كثيرة.. قم فامسك بإحدانا فصغ منها قصة أو قصيدة.. تُسحر بها العالم.. قم أيها الأديب النائم..؟
انتفضت من نومي فجأة وانقضضت على الفكرة التي تجرأت واقتربت مني.. ففزعت الفكرة.. وامتقع لونها.. وراحت تتملص .. تحاول الفرار ولكني أحكمت عليها الانقضاض فلم تفلح.. وتفرقت سائر الأفكار فزعة وانتشرت في كل مكان وأخذت تسخر من الفكرة الواقعة في الأسر.. رحمك الله يا أختاه الآن لقد وقعت في أسر الكاتب.. وعما قريب سيحولك إلى مداد على صفحة الأوراق ليتعرف عليك البشر.. أما نحن فما زلنا طلقاء.. نسرح ونتجول في الفضاء كيفما نشاء.. آه.. آه..
امتلأت الحجرة بالضحكات اللؤلؤية للأفكار المتراقصة في الفضاء حولي.. ألقيت إلى الفكرة الساقطة بين يدي نظرة فوجدتها فكرة جميلة جذابة ستحظى بكل تقدير من الناس أجمعين.. فهببت من نومي سريعاً .. وألقيت نفسي على كرسيِّ أمام مكتبي.. وأخرجت الأوراق.. وهمست للفكرة مبشراً: يا أيتها الفكرة الجميلة البراقة.. عما قريب ستكونين مرسومة على الأوراق.. عما قريب.. سيقرأ العالم أجمع عنك.. وسيُعجب بك كل البشر.. وقد أنال عنك جائزة أو تقدير.. فاستبشري..
قالت الفكرة حزينة : ولكني كنت أفضل أن أظل براقة منطلقة في الفضاء مع أخواتي أثير شغف الكتاب والشعراء والرسامين ثم لا أهبط على رأس أحدهم فيظل الواحد منهم يحلم بي ليل نهار.. ويمنى نفسه كل حين بفكرة براقة جذابة كبيرة مثلي.. وأظنك محظوظاً أيها الكاتب أن عثرت على فكرة مثلي.. فهنيئاً لك.. وليرحمنى الله فغداً سيعرف عني الناس كل شيء وسأفقد بريقي ولن يلتفت إلى أحد وإن طفت بخاطر بعد ذلك فسيقف العقل حجاباً بيني وبينه ويقول: لا تقرب هذه الفكرة فهي فكرة فلان.. فأنا الآن ملك يمينك.. وفي أسرك.. وسأظل ملكك إلى آخر الدهر.. فهنيئاً لك..
رق قلبي لحديث الفكرة.. وكدت أن ألقى بها في الفضاء لأحررها من الأسر.. لكني تأملتها ملياً فأشفقت ألا أجد فكرة براقة لامعة مثلها بعد اليوم.. فأمسكت عن التفكير في حديث فكرتي الأسيرة.. وانطلقت أرتب أوراقي.. وأعد مدادي لأحولها إلى فكرة يقرأها الناس.. ويشيرون إلىّ ويقولون هذا صاحب هذه الفكرة..
الأوراق جاهزة والإضاءة مناسبة والجو هادئ موحٍ .. حسناً لأبدأ الكتابة.. توكلت على الله.. القلم.. أين القلم.. كل شيء معد إلا القلم.. ترى أين ذهب قلمي ؟ لقد اعتدت أن أضعه في درج مكتبي إلى جوار أوراقي.. فأين هو..؟
قلبت الدرج رأساً على عقب فلم أجد القلم.. تعجبت وأحسست بحِيرة كبيرة تتملكني.. هذه هي المرة الأولى التي أبحث فيها عن قلمي فلا أجده.. لقد كان دائماً يقف إلى جواري.. لا يتركني.. يبادر إلى إلقاء نفسه على صفحة الأوراق.. ويروح ويجيء ويصعد ويهبط ليحول أفكاري إلى كلمات عذبة رقيقة تمس قلوب الناس.. وترفع قدري لديهم.. والآن لا أجده.. ترى أين ذهب ؟
بدأ صبري ينفد فأخذت ألقى كل شيء بعيداً عن طريقي وأبحث عن القلم.. وأحسست بقلق بالغ يتملكني وبدأت أفقد أعصابي.. ويتفصد جبيني عرقاً ورحت ألقي على الفكرة بين يدي نظرة بائسة حزينة وراحت هي تتراقص فرحاً.. وقد نما لديها شعور جارف بأنها ستتحرر من أسرى وتنطلق مع رفيقاتها في الفضاء الرحب من جديد..
تلفت ثائراً وأخذت أصيح : أين أنت أيها القلم اللعين.. أين ذهبت؟
بحثت في كل مكان.. فلم أعثر عليه.. حتى يئست.. فنظرت إلى فكرتي الأسيرة.. وهمس لها : مازال في عمرك أيام يا فكرتي.. سأحررك اليوم ولكني لن أفعل المرة القادمة ولابد أن أعد بدلاً من القلم أقلاماً حتى إذا فرَّ أحدها وجدت آخر.. فانطلقي الآن أيتها الفكرة والحقي برفيقاتك.. أما أنا فسأقضي الليل كله أبحث عن القلم اللعين..
ألقيت فكرتي في الفضاء.. فانطلقت سعيدة مسرورة.. صائحة: حمداً لله لقد تحررت من جديد.. شكراً لك أيها الكاتب.. أعدك بألا أقربك ثانية.. والتقتها رفيقاتها بالأحضان.. والتهاني.. وانطلقن سعيدات مسرورات يعلبن ويداعبن الفضاء بأجنحتهن..
التفت خلفي.. أتفحص أوراقي من جديد.. فرأيت مؤخرة القلم مندسة بين الأوراق.. تحاول قدر طاقتها الاختباء مني.. أحسست بثورة تندلع في عقلي.. وبلهيب من النار ينطلق جسدي.. اقتربت منه متلصصاً.. لأنظر ماذا يصنع هذا القلم اللعين ؟ ومددت يدي وقبضت على مؤخرته بشدة فصرخ القلم.. والتفت إلىَّ وانهال عليّ سباً وشتماً.. ففزعت وألقيته من يدي.. صائحاً: من أنت.. أنت لست قلمي الذي أعرفه إنك غريب عني.. من أنت؟
صاح القلم حانقاً لاعناً: نعم لست قلمك.. أنا حقاً غريب عنك.. وأنت غريب عني..
قلت: كيف ذلك.. وأنت رفيقي الذي لا يفارقني.. وأنت أنسى الذي أجد فيه نفسي.. وأنت راحتي التي تركن إليها روحي.. وأنت بستاني الذي يلهو فيه عقلي.. وأنت رحيقي الذي تنتشي به أعماقي.. كيف تتنكر لكل هذا أيها القلم.. كيف؟
هز القلم رأسه حزيناً: لقد كنت لك كل هذا وأكثر.. ولكنك أيها الكاتب تركتني ومللت صحبتي.. وتركتني أياماً وشهوراً وحيداً لا تمسسني أناملك.. ولا أداعب رأسك.. فلم تطعمنى من حلو أفكارك.. ولم تسقني من جميل أشعارك.. والآن تبحث عني..
تذكرت فجأة فكرتي الضائعة فصرخت: لقد أضعت بعنادك أيها القلم فكرة جميلة براقة.. كادت أن تكون ملكي وتنضم إلى أسيراتي.. فتحملني أنا وأنت وتحلق بنا في سماء المجد.. ولكني أضعت الفكرة.. وتركتها لمّا يئست من العثور عليك.. ألم تسمع صياحي.. ألم تر لوعتي في البحث عنك؟
قال القلم : لقد رأيت كل ذلك.. ولم أخرج إليك..
قلت: ولمَ ؟
قال القلم المتمرد يلقن الأديب درساً: حتى تعرف قدري فلا تتجاهلني بعد اليوم ولا تتناساني بعد اللحظة ولا يشغلك عني شاغل.. ولا يحول بيني وبينك حائل... حتى وإن كان أولادك.. وحياتك.. فأنا أولاً وبعدي أي شيء.. إياك أن تدَعَني بلا عمل.. إياك أن تعطلني عن الكتابة.. إياك أن تهمل ما وهبك الله لأجل الحياة والأولاد والدنيا فالله سائلك عما وهبك.. فاحمل قلمك واسع في مراضاة ربك.. يطعك كل شيء.. وتأتيك الأفكار عذبة مضيئة براقة لامعة.. هل وعيت الدرس أيها الأديب..؟
لم أملك إلا الخضوع لسلطان القلم.. فمن غيره أجدني تائهاً حزيناً.. طأطأت رأسي موافقاً وقلت: صدقت أيها القلم.. ولن أدعك بعد اليوم بلا عمل.. فاستعد لمعانقة الأفكار.. والقفز بين السطور على صفحة الأوراق..
أيمن شمس الدين
![]()