عندما يغتال الملل كل اللحظات الهادئة
وينساب ضجرا لزجا إلى أطرافك وأنت تعانق
الشاطيء من شرفة ذاك الفندق وترى كل تلك
الفوضى التي تلتهمك ..
عندما يتقاذفك إحساس بالبلادة وأنت تسدل
ذراعيك إلى طرفي سريرك ...
عندما تتزاحم أمنياتك عبثا لا تطيقه ..
أي أمنياتك تنتحر أولا ..
لا أدري كم من الوقت مضى ، كم وجها رأيت
، كم طابقا هبطت ، ولا أذكر إن كنت قد
أودعت مفتاح حجرتي لتلك الموظفة في
شباك الاستقبال أم لا ..
أعلم أنني وجدت نفسي أقف أمام مدخل
الفندق الرئيسي ، ورغما عني وجدتني
أنساق لإلحاح سائق التاكسي بالجلوس
إلى جواره ..
بدأت أتذكر أنني لم أنم ليلة الأمس
عندما رأيت الشاطيء يكاد يخلو إلا من
بعض المارة ، بعض عمال النظافة
يحملون مقشاتهم بملل ..
لم أنظر إلى وجه السائق ، ولا أعتقد
أنني ألقيت التحية ..
بدأت أختلس النظر إلى ذلك الوجه
العربي الأسمر ..
تلك الملامح القاسية ..
يبدو أنه أمضى ليلته ينتظر أحد نزلاء
الفندق ، ربما ليطعم أفواها ، أو
ليشتري خمرا ، أو ... أو ..
من يدري ..
عندما تنحنح السائق أدركت أن
حديثا ما سيدور الآن ..
لم أنتظر طويلا حتى سألني
بلهجة محلية :
لا موخزة يافندم .. عاوز تروح فين .. ؟
تظاهرت بعدم سماعي له ..
ربما لأنني لا أدري إلى أين سأذهب ..
أو متى سأعود ..
ساد الصمت برهة ثم عاد ليسألني ثانية ..
أريد أن أذهب إلى البحر ...
أفندم .. ؟
أمال اللي على يمينك دا إيه حضرتك .. ؟
مش برضو بحر والا أنا غلطان .. ؟
آه يالهذا السائق كم أكرهك ..
لا أجد رغبة في الجدال ..
حسنا قف هنا على اليمين ..
أعتقد أنني لم أوفق بسائق يدرك
ما أعنيه بالبحر ..
ترجلت من التاكسي بعد أن دفعت له
وانطلق متذمرا وأخالني سمعته يقول .. :
يافتاح ياعليم يارزاق ياكريم ..
بدأت قدماي تحث الخطى شرقا .. والبحر
لم ينم مثلي .. والهواء ينساب باردا
يعبث بما لم تدركه مقشات عمال
النظافة بعد ليلة أنهكت البحر
سمرا حتى امتلأ عشقا بتلك المشاهد
التي أراها كل ليلة هنا ..
يسمع بوح العشاق ..
ويشهد على التقاء أصابعهم ،
التصاق أجسادهم ، اختلاط أنفاسهم ..
أذكر أنني تطفلت على عاشقين كانا
غير موجودين بعالمنا آنذاك ..
ربما لم يقولا الكثير .. لكنني
كنت أختلس النظر إلى عينيها ،
إلى عينيه ، إلى البحر ..
الفقر هنا كتلك الصماء التي يتكسر
على صدرها موج البحر ..
تتكسر معه أمنياتهم العذبة ..
أحلامهم الغضة .. لكن الأصابع تتعانق
والأنفاس تختلط برائحة العشق والبوح ،
والبكاء ، ورائحة الذرة المشوية ..
ها أنا أبصر البحر في هذا الصباح غير
البحر الذي ألفته عندما كنت أسرق وقتي
لأعانقه .. وأختلس النظر إلى مكان كان
يفيض دفئا فأعود بعيني منكسرا ..
ربما هذه من اللحظات القليلة
التي سأهنأ فيها بهذا
الهادر منفردا ..
فأبكي على صدره غربتي وضياع وطني ..
لاتزال خيوط الشمس تتراءى بخجل ..
السرطانات تفيق على أول تلك
الخيوط الذهبية ..
المحارات بعضها خاو كصدري ،
بعضها يتضور شوقا لسرطان غادر ..
والموج يهدر ..
آه كم أعشق هذا المكان ..
كم أعشق هذا البحر .. كم أعشق هذا
الهواء ..
وبين عشقي لهذا وذاك تتولد الحسرة
على تلك الملامح التي عشقت بها كل
هذا فبقي ماعشقت ورحل من علمني
العشق ..
لم أفق من جنوني هذا إلا وعامل النظافة
يدس مقشته تحت قدمي متذمرا ..
ربما من يوم سيلهب ظهره نصبا أو
من لقمة استحالت إلا ممزوجة برائحة النفايات ، أو من أفواه يكدح
لأجلها ...
توقف قليلا ..
نظر إلى بعينين قاسيتين ..
تمتم قائلا .. :
أما ناس فاضية بصحيح ... هو انتو
معندكوش شغل بدل الصرمحة دي .. ؟
ابتسمت بهدوء مميت وأشرت برأسي ...
أن لا ..
الاسكندريه 2007



رد مع اقتباس