بسـم اللـه الرحمن الرحيـم


{ حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهمْ سمعُهمْ وأبصارُهمْ وجلودُهمْ بما كانوا يعملُون * وقالوا لجلودهمْ لم شهدتمْ علينا قالوا أنطقنا اللـهُ الذي أنطقَ كل شيء وهو خلقكمْ أولَّ مرة وإليه تُرجعون* وما كنتم تستترون أن يشهدَ عليكمْ سمعكمْ ولا أبصاركمْ ولا جلودكمْ ولكنْ ظننتمْ أن اللـهَ لا يعلم كثيرًا مما تعملون * } . سورة فصلت



مدادي الغائب زمنـاً،
السلامُ عليكَ ورحمةُ اللـهِ تعالى وبركاتـه ، أمّـــا "وَردُ "،
معذرةً مدادي، لمْ تعتَدْ منّي عِتابـاً على حينِ غِرّة، ولا حديثاً تحتَ جُنْحِ دمعـة، ولكنّهـا لحظـةٌ هربتْ من أعماقي صارخةً فيّ وفيكَ، فكيفَ لي أنْ أكمّمَ فاهـا ؟ ! صبراً عليها وعليّ، ولكَ جزيلُ الوَرْد !
أخبِرني يا بئـرَ الجراح، كم تبقّى لكَ من أجنحـةٍ كيْ تحطَّ في قلبِ وردةٍ للأبـد ؟ وكمْ يلزمُكَ من نبضي كيْ ترسمَ لوحـة ؟ ولِمَ أشحْتَ بوجهِكَ عنّي، بعدَ أنْ أدرتُ الشراعَ عن ضفةِ النّـدم، وجدّفتُ تجاهَ مدينةُ الأوبـة !؟ أتُراكَ اعتدْتَ أغاريدَ الهوى، وجثوتَ قربَ مدفأةِ الذنوب، فرِحاً بدفءٍ لايزيدُ ضلوعَكَ إلاَّ برْدَ ندَمـ، ودونَ أن تدري !
أما زلتَ تسكنُ أجمـلَ الغيمِاتِ إيلاماً، وتسافرُ خجِلاً في طوق يمامـة، توزّعُ معهـا رغيفَ الصّبر عليّ وعلى الأهل والأحباب ؟ أما زلتَ تُشرقُ مع الشّمس، في أجمـلِ ثنائيٍّ لم يشهدْ له الأمـلُ مثيلاً ؟ ! أمازلتَ تُشرقُ منّي، تسألـني عمّـا جنتْـهُ – من قبـلُ - عليّ أناملي التي حملتْكَ وهْنـاً ؟! أمازلتَ تطرحُ على أسراب اليمام التي تحرسُ طريقَنـا، أسئلةً عن الولادة والموت وما بينهُمـا ؟ أسئلةً عن كلٍّ حرفٍ وُلِد من رحم معصيـة ؟! عن كلّ حبْـرٍ انسكبَ مُضرَّجاً بخطاياه ؟! يغُضّ الطّرفَ عمّا اقترفتْ خُطـاه ؟!
أما زالَ النهارُ مِلْكَ يمينـكَ، لا تسرقُـه شِمالُ جراحك ؟ ! أمازالَ الليلُ يرافقُ عصافيرَ بوحكَ، ينفضُ عن أجنحتها الصغيرة بعضَكَ، ويحرسُ بعضكَ الآخرَ ؟! أمازالَت النجومُُ تطرحُ عليكَ أسئلةً لا أجوبـةَ لها ؟ أذكرُ أنّها كانتْ تسألُكَ ذاتَ عتاب، عن : "الإنسـان" ، عن جدوى "الحلـم" في زمنٍ غريب، عن العوالم التي اهترأتْ بقلبِ "وردةٍ"، كان أقصى أحلامها أنْ ترتدي القلوبُ الشّمسَ، وأن يظلّ القمرُ هويّتَها الوحيدة !
بالنسبة لي، لم أتمكّنْ من الإجابـة عن أسئلتها، لأنّي ببساطـة حملتُ حياتي في صرّةٍ بيضـاء، أسلمتُهـا للـه، فانعتق القلبُ منّي محلّقـا خارجَ حدودي، حيثُ السّفر يحلو، والأمنياتُ تكبرُ، والرّوح تهفو لرائحة الجنّـة !
يتعثّر قلبي الطليقُ مرةً بأحزانٍ بحجم وطن، ومراتٍ بوردة، ويقفزُ مراتٍ أخرى من غمام إلى نجـمٍ إلى ضحكة طفـل، حتّى يبلغَ جفونَ القمـر الذي ما خانَ عهداً قطُّ، يحاولُ تضميد بعضِ جراح الأرض، يحملَها إلى سفينةٍ الصّبرُ هيكلهـا، والحبُّ للـه وفي اللـه ومع اللـه رُبّانهــا، والخوف والرّجاء رفقاء طريقــ .
عودتي إليكَ - مدادي - بعد خصامنا الذي طالَ ألفَ ليلةٍ قمريـة، حادَ بروحي مرةً أخرى عن ضفةِ العقلاء، ونحن اكتشفنا منذُ اعتزالنا دنياهمْ آخر مرّة، أنّ العقلاءَ في دنيانا هذه، لا يحبّونَ ولا يحلمونَ ولا ينسكبونَ ولا يبتسمون ولا يبكون، وحينَ أتحدثُ عن الحبّ والحلم والانسكاب والابتسام والبكاء، أتحدّثُ عن نوعٍ آخرَ لا يعرفـه العقلاء، صُنِعَ خصّيصاً من عطرِ بنفسجـةٍ أجهشتْ صدقـاً ..!
لقد غبنا عن الورق زمناً، وإنْ كانَت الرّوح التي ربطتْنا بحبلٍ سُرّيٍّ واحدٍ، تكتبنا معاً على دفاترها، فلا ورق يشبه ورقَ الرّوح، ولا مداد يشبهُ مداَدَها . هاأنتَ تراني أنسكبُ في دواتكَ إذاً، كأنّي الرّوحُ في آخرِ غمراتها ، وقد أكونُ فعلاً ! فاثبُتْ ما استطعتَ يا مدادي، اجلِدْنـي بعتْبِـكَ إذا سرقتنـي غفلـة، أو غفا على صدري دمعٌ هارب من حصارِ بسمة,. فالأفراحُ ثمنُها غـالٍ ! َأوّل قطرِها دمعٌ، وأوسطـه صبرٌ، وآخرُ الصّبـر جَنّــة,. لكنّ أجمـلَ خواتيـمِ الصّبْر رؤيـة الرحمن راضياً راضياً راضياً !
مدادي، رفقاً بشوقي المُتهدّج إليكَ، أدركُ أنّني أثقلتُ كاهلكَ بشجوني، ولكنّـه الشوقُ للانسكابِ معاً على الورق، لكـنْ تمامـاً كمـا عاهدْنا اللـهَ آخرَ مرّة : [ حرفٌ في رضـا اللـه " أصلُه ثابت وفرعهُ في السّمـاء " بإذن اللـه ] !
فانسكِـبْ للـه ولا تغلق عليَّ نوافذكَ ! ففي صمتكَ الأخير، احتميتُ بغمامةٍ حبلى بالورد، كنتُ أنتظرُ معها الولادة انتظاري للُقيا أمّي، كيْ أضعَ المولودَ في حِجْري، بلْ وبكلّ حُجراتِ نفسي فارّةً بـه إلى اللـه ...أخشى عليه الموتَ غفلـة !
أظنّكَ قدْ عرفتَ الآنَ أنّ الدنيا ليستْ كما ترى بعيونِ أحلامك أو أوهامـك، تشبه الفجرَ أو الظلّ أو ألوانَ حجرتي ! هي لا تُثمِرُ نجمـاً، ولا تلِدُ ورداً إلاّ حينَ ترافقُ الشمسَ في هودجها، وهي عائدةٌ مع القوافلِ إلى ربّ العالميـن، تقصُّ أجنحـة اليأس، بعدَ أن غسلَتْ أمانيهـا الفانيـة بالعطـر، وهي توزّعُ بطريقهـا حبّاتِ الخير والنّور والأمـل، على الأوطان الجريحـة، والأرواحِ البائسـة، والقيم التي طُعِنَتْ ,. وَليسَ في حقائبِ سفرِها إلاّ الوردُ !
أَوَ ليسَ الوردُ وجهـاً آخـرَ للصّبـر ؟ ! .