إهـداء : إلـى الحبيبـة بسـمـة


رحَلَـتْ جنّـةُ الأرض !
هكذا قرأتُ الخبَـرَ في صحيفـةِ نبضِنـا معـاً، قبلَ أنْ أقرأَهُ على جدارِ روحكِ معلّقـاً. كنـتُ فقطْ أقتفـي أثَـرَ عبَـقٍ، لم يكنْ في الحقيقـة غير آخر دمعـةٍ اختلسَهـا منـكِ شوقٌ مجنونٌ إليهـا، في هجْمـةِ حنيـن ! أدركُ أنكِ ستقولينَ لي : بعدَ رحيلهـا، حياتي كلُّهَـا وُلِدتْ من رحـمِ حنيـنٍ هَـــرِمٍ مُعتَّـقٍ، معـهُ ستعيشُ وعلى عهدِهِ ستبقـى! وعلى عروقِ الشّوق ستُعلّـق !
ربّمـا لم أخبركِ يا أختَ الرّوح، أنّي كنتًُ قرْبـَكِ، جالسةً أتأمّلُـكِ، وأنتِ تمسكينَ بيديْهـا الكريمتيْـن قبلَ رحيلهـا، تشهقيـنَ كلّمـا ناداكِ كلّ نفَـسٍ من أنفاسهـا : بسمـة !
كلّمـا التفتَت الجميلةُ النائمـةُ رحمها اللهُ، وهيَ على سريرِ الطُّهْـر، صَوْبَ الحُبّ الرّاقدِ اليقِظِ، الجالسِ المتّكئِ، الباسمِ الباكي، الشادي الصامتِ، المُطـلّ بلهفـةٍ منْ عيونِ قلبكِ، فأشارتْ إليـه بحنانٍ يَسَـعُ كَـوْنَ آهَــة : بسمـة ! كلّمـا سمعَتْ صريرَ دمْعِكِ، وروحُكِ الصّابرةُ تُغلقُ أبوابَهُ همساً، خوفاً، إشفاقاً، حبّـاً,. بينمـا بسمتُكِ ذاتُها، تبذلُ قُصارَى صبرِهـا لتصلَ إلى تقاسيمِكِ سالمةً مُعافاةً، تتعثّرُ حينـاً بعَبْرَةِ شوق، وَحِيناً آخرَ بوخْـز غياب !
هلْ تدرينَ أنّي سمعتُ رجفةَ قلبكِ يا بسمـة ! سمعتُهـا تسقطُ مع أوّل قطرةِ غيث، سافرَتْ في جفونِ وطَنـي !
كنتُ أتأمّلكمـا، والقلبُ يتبعثَرُ نبضُه خطوةَ خطوةً، ودمعُـكِ جفّتْ منابعـه إلاّ منْ رفيقاتِه المخلصات، وهنّ يرسمنَ على جبينـه : "الحمدُ للـه"ِ، "لاإله إلاّ اللـه "، "اللـهُ أكبـر"، "سبحان اللـه"، "أستغفر اللـه".
كنتُ أراكِ، تقطفينَ منَ بستانِ إيمانكِ المُثمِر فاكهـةً، لمْ أذقْ أحلـى منهـا قطّ ! :"اللـهُ اللـهُ حسبي"،"بكَ أستجيرُ، ومَن يُجيرُ سِواكَ"، وكنتُ أجدّدُ بها عهدي معَ الصّبـر، معَ أنّي لم اُفلِتْ منْ قبضـةِ دموعٍ متمرّدةٍ، استشاطتْ حزنـاً، أبَتْ إلأّ أنْ تقضِمَ بعضَ أسوارِ صبري !
كنتُ أتعلّـمَ منـكِ كيفَ يصبحُ الصّبرُ طُهراً، والدمعَـة زهـرة، والرَّضـا حدائق قلب، تزهـرُ كلَّ حينٍ برحمـةِ ربّهـا. أرأيتِ كمْ أديـنُ لكِ بعدَ الرحمنِ جلّ وعلاَ ؟ ! فكيفَ بعدَ هذا كلّـهِ ، لا أكونُ -معـكِ- للصّبـرِ صبْـراً ؟ !!
قدْ صحِبْـتِ الصّبرَ زمنـاً طويلاً، فأدركتِ أنّـهُ رفيقٌ وَفيٌّ، يقسو علينا في أحايينَ كثيرة، ولكنّهـا قسوةُ المُحِِـبّ الصّادقِ الذي يرى بعين بصيرتـه ما لا يراه غيرُه، فيتأبّطُهـا ليُبلّـغَ محبوبَـهُ السّعادة القصوى، حتّى وإنْ كانَ أوّلُ قطْرِهـا مُرّاً ! فالأفراحُ لا تُحصَدُ إلاّ بمنجـلِ صَبْـر، أوَليسَت السّعادةُ جائزةَ الصّابريـن يا بسْمـة !
أُدركُ أنّكِ زهدتِ في الدنيا وما فيهـا، وأنّكِ تشتاقينَ إلى الحبيبـة الراحلـة، تسمعينَ صوتَهـا في كل رُكنٍ من القلب، تُنصتيـنَ إلى أنغامِ عزفـهِ، وأنتِ تجرّيـنَ الدّمعَ جرّاً إلى مقصلـة الصّمت، كيْ لا يفضَحَ أسرابَ الأشْوَاق المُختبئـةِ في حناياكِ !
أدركُ أيضاً يا صابرة ! بأنكِ ترينَ بعينِ شوقِـكِ روحَهـا، وهيَ توزّعُ على بناتِ نبضكِ خُبـزَ حنانٍ لايشبهُ إلاّهُ، قبلَ أنْ تكتبَ – هيَ - بمدادهـا المشتاق على كلّ أوراقِ قلبـكِ : سلاماً سلاماً سلاماً !
لكـنْ .. ! يا مَنْ فرَّتْ مَعِـي إلـى اللـه، نتقاسَـمُ الأمـلَ نفسَـه، والحـزنَ نفسَـه، والغيـابَ نفسَـه، والرّضـا نفسَـه,. نسافرُ كلَّمـا هاجتْ أشواقُنـا، على أجنحـةِ الأمـل في اللـه سُبحانَـه، نحطُّ على جبينَ غيمـةٍ أو على كتـفِ نجمـة، في عشِّ طيـرٍ أوْ على جناحِ يمـامـة، في شرفـةِ القمـر أوْ في قلـبِ مُحِبّ صادق، في جُحْرِ حزنٍ أو في كهـفٍ جرح، على غصنِ زيتونٍ أوْ في مَحارَة، على نصلِ عَبْـرةٍ أو على شَفَـةِ دُعـاء، حيثُ الأرواحُ المُحِبّـةُ المُضرّجـة بالشّوق وبالأشجان، المُؤمنـةُ بقضـاء اللـه، تهفو إلى أفقٍ مُخضَـرّ لايَنبتُ فيه حزنٌ، أوْ يُولَدُ فيه غيَــاب، ولاَ يُفتَـحُ له بأمـرْ اللـهِ بابٌ أو شرفـة، ثقي أنّـا في عُيونِ الحنيـنِ سنُقيـم، وعلى جفونِ الشّوقِ سنسْهَـر، ولكنْ رُفقـةَ بسْمـةٍ مُؤمنـةٍ تحرسُنـا، وعينُ اللـهِ ترعانـا .
فكونـي كمـا أنتِ، نخلـةً مهْمَـا تسـاقطَ ثمـرُهـا، تظـلُ وطنـاً للصّـبْـر !