عاد الغريب إلى قريته مسقط رأسه متلهفا بعد طول ترحال، ينشد شيئا من دفئها وحنان تربتها، وطيب العشرة بين أهلها، هؤلاء البسطاء .. البسطاء في كل شيء، حتى في أحلامهم ..
وما إن وطئت قدماه تلك الأرض إلا وشيئا غريبا أحس به، فما عادت لأجوائها تلك الرائحة الزكية التي تستقبل القادم .. رائحة الزهور، وشذى العطر العبق في كل ركن تفد عليه، ما عادت البسمة المهللة المرتسمة على الوجوه، وما عادت الأرض تلك الأرض، وخبت الخضرة التي كانت يوما تنشرك على صفحتها سابحا في خيالاتك، تائها حائرا عند أيها تقف وبأيها تبدأ، فجميعها صالحة، وجميعها تستدعيك للحظة بدء ..
هنا على تلك الأرض الطيبة كم لهونا ببراءة، ولعبنا، وانتشينا، وأحببنا، وحلمنا، ولا مانع أن يتخلل تلك البراءة شيء من لهو الأطفال ومشاكساتهم، وعبثهم، وأحيانا مجونهم .. هذا المجون اللذيذ البريء، وليد حينه، وابن لحظته، ابن تلك التلقائية البريئة المتأصلة في كل أبناء هذا الوطن العزيز العريق .. هذا الوطن الذي ما عاد كما كان، وتداعت عليه الخطوب من كل جانب، حتى أقزام القوم، بعد أن كانوا يرقصون ببهلوانية في بلاطه، راضين سعداء بهذا الدور، تجدهم الآن يسعون لأخذ دور صاحب البيت، متجاهلين أنهم كانوا يوما خدما في بلاطه .. وتناسوا أن خطب وده كان قصارى طموحاتهم .. ولكنها ليست قوتهم، فالضعف هنا في البيت، وسيد الدار، وجدران المساجد، وترانيم الصوامع، وأجراس الكنائس، وكتب الساسة، ونظريات الفقهاء، وعباد التزلف، ومبدعي النفاق، وأهل الحل، وشرذمة العقد، وفجور القيم، ووأد الضمير، ورجم الأنثى، ونفي الصبي .. الضعف فينا، إذ تناسينا، وتخلينا، واتبعنا، وخنعنا، وارتضينا، وهُنَّا، وبتنا نبكي على أطلال، ونحكي عن بقايا تليد أمجاد .. الضعف في استمراء الخنوع، والتلذذ بالتبعية، والرضا بأن يصبح لك سيد، تمضي مزهوا في ركابه، بعد أن كنت يوما سيدا .
عاد الغريب محملا بهموم عمر قضاه في الترحال بحثا عن أناه، وكان أمله أن يجد حضن قريته الدافئ ليحتويه ويخفف عنه مرارة الغربة والترحال، ولكن الأرض لم تعد هي نفسها الأرض، وتبدلت الناس، وخبت أمارات الابتسام من على الشفاه، ووجد العبوس طريقه لكل القلوب، والكل يمضي في طريقه سكران لا يلوي على شيء، ولا يرى شيئا، وهنا أحس العائد بغربته الحقيقة، وأن أرضا لا تسعك لا تصلح أن تكون لك موطنا، مع أن طينها مترسخ في أعماق القلب، وشذى تاريخها هو كل ما لديك من ذاكرة، ولكن لم يتبق من الأيام مثلما انقضى، وللعائد الغريب أن يعود من حيث أتى، أو يبحث لأحلامه عن غربة جديدة .. عن مدفن جديد .. ربما يوما تكون له موطنا .